اخر الاخبار

على الرغم من ابداعات الشعراء والفنانين في الجنوب العراقي بجميع مجالات الابداع والفنون الا انها تتميز بصفة مختلفة عن باقي المناطق الاخرى وهي البكائية والشجن. فالحزن مقرون بخلجات انفسهم وعاداتهم وطبائعهم، يعيشونها بادق التفاصيل اليومية، ويرسمون صورة فنية ذات جمالية هائلة تصبح بفعل التراكمات اليومية ثروة فنية أدبية موضوعها الحزن والشجن. وتذكر المدونات التاريخية ان الغناء والمراثي الحزينة في العراق تعود الى 4500 عام سابقة، وقد تجلت بوضوح في اساطيرهم، ولعل اوضحها ما جاء في اسطورة (انانا) عن الاله (ديموزي ـ تموز). 

يذكر الدكتور فوزي رشيد بان هناك اشارات عديدة الى ان الالحان الغنائية السومرية تحمل في طياتها طابع الحزن والبكاء، وان كلمة ( صراخو) الأكدية اصبحت لصيقة دائمة بالأغاني والمراثي الحزينة. حتى ان هناك كاهنا يعرف باسم (گالا) متخصصا بادب النواح والمراثي الجنائزية ورثاء المدن وهو ما يشبه (الرادود) اليوم في وظيفته.

وهذا موجود عند النساء ايضا فهناك مغنية سومرية تسمى (أموبكيتي) ومعناها ام البكاء، متخصصة في الالحان والمراثي الحزينة في المآتم، مطابقة تماما لما تسمى اليوم (الگواله) او (الملايه). 

وواضح من هذا العرض ان الونين الذي نسمعه في التعبير الغنائي والشعري المعاصر هو امتداد لذلك الطبع المملوء بالشجن عند السومريين، فمناطق الجنوب أرض خصبة للبكائية لاسباب اجتماعية ونفسية وعاطفية، وربما لسبب جغرافي مجهول ..

الأدب الشعبي والحزن

للادب الشعبي تأثير اكثر فعالية على السامع، فالمفردة الحزينة تلقى اذنا صاغية وهي اكثر تأثرا بخيال الشاعر وتصوراته لذلك اجتهد اغلب كاتبي الشعر الشعبي في انتقاء الكلمات بدقة عالية وبإحساس متميز مصحوب بألم وتناغم وصورة واضحة للمتلقي، وهذا ما نراه عند الشاعر احمد البدر الخماسي في مقدمة قصيدته:

هي بلوه...

نبچي من نسمعها ونسميها غنوه

تونه لااحلام الله سدينه الچفن

وفززتنه الماتخاف من الله صوت

وركبت اظهور الزلم

او ما اظهره المبدع الاديب سلمان الزركوشي بصورة شفافة معبرة بدقة:

نهران جرف الچفن

صيهود صبن دمع

يجون بوجه الحزن

جريان صب الشمع

چون أبروحي عمر

وصارن الي تالي طبع

بينما نسمع شاعر الالم الراحل جبار الغزي يقول:

يكولون غني بفرح

واني الهموم اغناي

ابهيمه ازرعوني ومشوا

وعزوا عليه الماي

ومن اكثر المواجع والقصص الشعرية ما يعود لحادثة في مدينة سوق الشيوخ، حيث امتزاج الفرح بالحزن، وهي قصة عائلة (ملا عودة الحمدي) في ليلة زفافه على امرأة كانت تعشقه ويعشقها، وكان يوم الزفاف يوما مشهودا بسبب العلاقات الاجتماعية الواسعة لهذه العائلة الكريمة، واجتماع العشائر واهل المدينة بمحبيها وفنانينها وشعرائها ووجهائها، الى ان زف العريس الى معشوقته وحبيبة قلبه، فما ان دخل عليها حتى سقطت جثة هامدة بين يديه، فكان الموقف اشد عليه من وقع الجبال، فكتب بيت الابوذية المشهور:

يصاحب گوم وانصب مأتم النه

على الوياه ساعه ما تمنه

لون الشخص يدرك ما تمنى

ابد ماظلتش علّه خفيه

أرسل البيت الى اخيه بورقة صغيرة، فجاء اليه مسرعا ليجده جالسا امام الجنازة شارد الذهن.

هذه الصور الابداعية التي رسمتها خيالات الشعراء كانت الملجأ حين الفزع، والمسكن حين الوجع، والراحة المعبرة للنفوس التي ارهقها الكتمان، فوقع الكلام يريح النفس ويغسل القلب ويسعد الروح ويعطي الحياة، وتبقى مدعاة لنزهر رغم كل المتاعب والجروح، وصدى صلبا لخريف الايام كي لا نتساقط امام معركة الحياة الكبيرة..

الاطوار الحزينة في الجنوب

لم يكن الغناء والطرب الجنوبي مدعاة للهو، انما كان قضية حيث يبث بصوته اجمل الاوجاع المكبوتة، لتثير شجون المستمعين. ولعل اشجان وآهات المبدع خضير حسن مفطورة الذي هام بحبه شوقا وكان وسيلته الوحيدة في تخفيف الم الشوق والمعاناة، هو صوته. فاخذ مكانا في الشارع المقابل لبيت حبيبته، ومارس مهنة بيع اللبن وانطلق باشجى الالحان واعذب المواويل والابوذيات فظهر طور خاص عرف بطور (الشطيت) ونسب الى خضير مفطورة، الذي اكتسب لقبه من كلمة يفطر القلب، وقد تاثر به كثير من المطربين امثال داخل حسن وحضيري ابو عزيز  وغيرهما، وما زال هذا الطور يعد اصعب اطوار الابوذية اداءً.

الطور الثاني هو طور الصبي، ويعد من اشهر الاطوار الشعبية العراقية وينسب الى طائفة الصابئة المندائية، والرواية تقول ان الامير ناصر باشا السعدون امير المنتفق مؤسس الناصرية، ارسل الى (رومي شعلان)  وهو صابئي من سوق الشيوخ وكان حدادا، وطلب منه ان يغني بيتا من الابوذية بسرعة والا قطع رأسه، وبالفعل شهر سيفه فارتجف (رومي شعلان) خوفا، وقال ( ايا ويلي) ونظم بيتا وغناه خوفا من قطع رأسه والبيت يقول:

ايا ويلي

جلد لاجن جفاني النوم جلداي

وحل اليوم بين الخلك جلداي

اغني لو يذر الشيخ جلداي

لو امشي وتظل داري خليه

ومن هذه الحادثة نشأ طور الصبي، الذي يبدأ بـ ( ايا ويلي)  وقد غناه بشجن جبار ونيسه وحسين نعمة.

بالاضافه الى تلك الاطوار ظهر بهذه البيئة ايضا الطور المجراوي، الذي ينسب الى منطقة (المجرة) في سوق الشيوخ، كذلك امتازت هذه المدينة بطور الونين الشهير بالنواح، ولعل طور المحمداوي اكثر قربا لطور الونين بآهات الانين، ومن ابرز من اجادوا بأدائه الفنان رياض احمد.

عرض مقالات: