اخر الاخبار

شكلت المرأة العراقية عنصرا فاعلا ومؤثرا في الأغنية العراقية الشعبية والتراثية والحديثة والمعاصرة، وبفعل ما هضمته من معطيات حضارية بابلية وأشورية وعباسية وما خلفته هذه العصور من كنوز معرفية وثقافية وفنية جعلت من الفن الغنائي الموسيقي العراقي نهرا خالدا متعدد الروافد والمقامات والمذاقات. فقد أبدعت المرأة العراقية شعرا غنائيا في المحبوب والطبيعة، كما أبدعت تلحينا بمختلف المقامات، وأبدعت شدوا وغناء، وأبحرت مع الشعر الصوفي تلحينا وغناء، ناهيك عن أنها كانت ولا تزال ملهمة لخيال مبدعي فن القريض ومبدعي بحور النغم فصدحوا بأعذب الأنغام والكلمات في محياها وجمالها وعشقها.

وتميَّز الغناء العراقي بالتنوع فقد غنى مطربوه المقام العراقي باختلاف أنواعه وغناء (البستات) القديمة والحديثة، و(الأبوذيات) و(المربعات) و(العتابة) و(النايل) و(الركباني) و(المنولوجات) و(الموشحات) وأغاني الزفة، الزورخانة، الجوبي (الدبكة)، وأغاني رمضان، وأغاني الأطفال، والكسلات وأغاني الأعياد وغيرها، وكان للمرأة العراقية إسهامات كبيرة فيه. فقد حفل التراث الشعري الشفهي العراقي بخصوصية الشعر الدارمي الذي ابدعته المرأة العراقية، ويتألف هذا الشعر الدارمي من بيت أو بيتين تعبر بهما المرأة عن لحظات فرحها أو حزنها  في سياق شعر الغزل وما يرتبط به من تفريعات، ومن نماذجه التي سجلها التراث العراقي، قصة إعياء الفتاة ومرضها لغياب المحبوب وكيف أن أهلها يسقونها الماء قطرة قطرة ويسألون الله سرعة موتها رحمة بحالها، لكنها لن تموت إلا إذا حضر محبوبها، وهو ما عبرت عنه هذه الأبيات:

ديرولي ميه راس  ...    نكطولي ألف ماي

أتعبكم وما موت  ...   لمن يجي أهواي

وهناك أنموذج أخر لفتاة تلوم الباكيات وتدعوهن لخفض أصواتهن، حتى لا يسمع الحبيب صوت البكاء فيصيبه مكروه ، كما في  أنشودتها :

كل مرض مايباش  ...   خاله استريحن

يرعب كلب هواى  ...   لمن اتصيح

عمق وجدان

عكست أغاني المرأة العراقية عمقا ملتهبا في المشاعر يقود الألم والابتلاء في الهوى جسدته لغة عنيفة، كما في أغنية المطربة الساحرة عفيفة اسكندر متوعدة حبيبها “ الله لو تسمع هلي / شلون بغرامك مبتلي “، و تنبه فيها، حبيبها من خطر ان يعرفوا أهلها بما سببه من ألم لها. والمطربة “زهور حسين” تشتكي من الهوى، وتقدم شكوتها لأهل الهوى نفسهم، وهي ترتجي أن يعينوها، تقول “ انه عدكم دخيل / من عذاب الخليل “. وللشعر النسائي الجنوبي مذاق خاص في تذوق الحب والتلذذ بعذاباته، فتقول المرأة الجنوبية وهي تدير رحاها.

خصوصية

احتفظت كل مدينة عراقية بخصائص غنائية وموسيقية تميزها عن غيرها، وكان للمرأة الدور الأكبر في الحفاظ على هذه الخصوصية، فبينما اشتهرت مدينة الموصل بالأغاني السويحلي والليالي والمقامات الخفيف.  اشتهر في غرب العراق غناء النايل والعتابة والهوسات والأهازيج الشعبية الأخرى.

وبينما تنوع الغناء في كركوك تلونا بـ الطيف القومي والعرقي الإثني الذي يسكنها ومن ذلك نجد الأغاني الكردية بمقاماتها الأصلية التي تأثرت بها المقامات العراقية والبغدادية والألحان الشجية التي تحكي انكسارات الحب بغياب الحبيب أو موته أو قصص الحب التي تفشل بسبب عدم موافقة أهل البنت أو الشاب وألحان الأفراح بالأعراس والأعياد مثل النوروز وأعياد الربيع وأيضاً الأغاني التركمانية والمقامات الخفيفة مثل مقام (القوريات) والمخالف كركوك.

عرف جنوب العراق الغناء الريفي العربي الأصيل، من أبوذيات ومربعات وموشحات وأغاني الرقص الشعبي العربي. ومن أعذب ما في هذا الغناء ما نجده في مدن الناصرية والديوانية والكوت والعمارة وفي البصرة الفيحاء نجد غناء المنكَّر وغناء الهيوة والخشابة والأغاني الريفية وبعض المقامات العراقية بنمط البحارة...

وتميز تراث الغناء العراقي بأسماء رائدات نسوية عديدة منذ عشرينات القرن الماضي سواء من العراقيات أو من العربيات اللواتي سكنّ العراق وتركن تراثا فنيا زاخرا ومنهن:

صديقة الملاية، وهي صوت رنان عميق قوي يعتبر كنزا من الكنوز أجادت غناء بعض المقامات العراقية السهلة والأغاني العراقية القديمة واشتهرت بعدة أغان منها “ياكهوتك عزاوي بيها المدلل زعلان” وهي مقهى معروفة في منطقة الميدان.

وسليمة مراد، مطربة العراق الأولى، وهي الفنانة الوحيدة التي نالت الباشوية، وكانت تعقد في قصرها صالوناً أدبياً وسياسياً وموسيقيا، وتقيم الحفلات الغنائية وتشرك معها بعض المطربات المعروفات والمطربين المعروفين منهم ناظم الغزالي الذي نشأت بينه وبينها علاقة حب سريعة تزوجا على أثرها ويلقبها المقربون منها سليمة باشا ومن أشهر أغانيها “قلبك صخر جلمود”، وهي أغنية أثارت شغف أم كلثوم، التي طلبت من “سليمة” أن تغنيها، عندما كانت في زيارة للعراق عام 1935، ويُقالُ بأن أم كلثوم سجلتها بصوتها على أسطوانة نادرة.

وزهور حسين، التي اشتهرت بالصوت الرخيم العذب في خمسينيات القرن العشرين وغطت أغانيها مساحات كبيرة من البث الإذاعي العراقي، وانتشرت صورها على جدران المقاهي خلال بث أغنيتها الرائعة “لو للغرام حاكم” أو “غريبة من بعد عينك يتيمه” بصوتها الشجي الشاكي الباكي.

وكذلك أميرة الغناء الريفي “مريم عبد الله جمعة” بنت البصرة الفيحاء التي لقبت نفسها في ما بعد وحيدة خليل واشتهرت بهذا اللقب، وأجادت أطوار الأبوذيه ببراعة الحياوي والمستطيل..الغافلي..الدشت..العنيسي، كما أجادت أيضا في ألوان أخرى مثل السويحلي والنايل والبسته. واشتهرت بأغاينها الرائعة مثل “ من وصلك من دلاك” و “ عين بعين ..جا وين أهلنه.. “ وغيرها.

ويخلد تاريخ الغناء العراقي اسم “ عفيفة اسكندر “ نجمة هذا الغناء طوال نصف قرن قدمت فيها كل ألوان الغناء بجمال وإثارة مستفيدة في ذلك من تذوقها الموسيقي المبكر وثقافتها الواسعة وحبها  للشعر والأدب عبر مجلسها في منطقة المسبح في الكرادة، وكان يضم ابرز رجالات السياسة والأدب والفن والثقافة في البلاد.

وعكست التجربة الغنائية للمطربة “أنوار عبد الوهاب “ تأثير ألم التجربة السياسية وجراحها في أغانيها، فهي من مواليد الناصرية جنوب العراق وابنة احد أشهر الكتاب السياسيين في عهد الجمهورية 1958، وهو عبد الجبار وهبي الذي استشهد في انقلاب (8 شباط 1963).

وامتلكت “ أمل خضير “ تجربة عميقة في الطرب الأصيل ربما تأثرا بأسرتها الفنية أيام نشأتها، حيث  تأثرت مبكرا بالغناء وبمطربات الزمن الجميل؛ وحيدة خليل، سليمة مراد، وسلطانة يوسف، وبدرية أنور، ومنيرة الهوزوز وزكية جورج.  تربعت” أمل خضير” على عرش الغناء الرومانسي ذو الطابع الحزين مع محافظتها على الأصالة.  ومن أشهر أغانيها: “يا ألف وسفه ويا حيف - وفدوه فدوه- وتعال” و” واتوبه امن المحبة”، و” يا يمه آثاري هواي”.

وتعد “ فريدة محمد علي “ من أشهر النساء اللواتي سجلن حضورا متميزا في أداء المقام والأغنية العراقية مستفيدة في ذلك من دراستها الأكاديمية المتخصصة في علم الغناء فأبدعت من خلال هذه الملكات في أداء مجموعة كبيرة من المقامات العراقية قاربت العشرون مقاما. ولا غرابة أن تلقب “ فريدة محمد “ بسيدة المقام العراقي لأدائها المتميز لهذه المقامات وكونها المرأة الوحيدة التي تمكنت من أداء هذه المجموعة من المقامات وتقديرا لدورها المتميز في نشر هذا الموروث الغنائي العراقي في العالم لقبت بصوت الرافدين خلا ل مشاركتها في الملتقى الثقافي العراقي الأول الذي أقيم في العاصمة البريطانية لندن، كما لقبت ب “ قيثارة دجلة”.

مقام التصوف

ويحفل السجل الغنائي العراقي بالعديد من المبدعات العراقيات شعرا وغناء وتلحينا جيلا بعد جيل  ومنهن “ سحر طه” التي انتقلت إلى دنيا الحق مؤخراً بعد أن أبحرت بأنغامها مع الشعر النسوي الصوفي إيمانا منها بخصوبة وثراء الشعر الصوفي وما يحتويه من شجن إنساني عالي المذاق، وجاءت تجربتها في هذا المجال بعدما جذبتها تجارب النساء العاشاقات لله وفيضهن بالشعر الصوفي في تجليات وثمرة هذا العشق الإلهي. ورغم أنها قدمت أكثر من أربعين عملا فنيا بين غناء وتلحين لكنها كانت ترى نفسها أقرب إلى تلحين الأغاني الصوفية رغم صعوبتها.  وفي نظرها يتضمن المقام العراقي الكثير من القصائد الصوفية ومن الألحان الصوفية.

كلمة أخيرة

المرأة العراقية كانت منبعا للخصوبة الإبداعية شعرا ولحنا وغناء كما كانت ولا تزال ملهمة للإبداع في كل جوانبه الموسيقي والشعري، ولعل تجربة سحر طه واقتحام مجال شديد الجدية والصعوبة إنما يؤكد ما تتمتع به المرأة العراقية من ثراء حضاري وثقافي وروحي يشع في ظلمات أيامنا، وستظل المرأة العراقية مشعلا للنور والفن والإبداع يضئ سمواتنا ويغذي أرواحنا وعقولنا معا ويحافظ على موروثنا الثقافي للأجيال المتعاقبة.

عرض مقالات: