اخر الاخبار

تشهد الصناعات التحويلية في العراق تراجعًا كبيرًا في مساهمتها بالناتج المحلي الإجمالي، حيث لم تتجاوز 1 في المائة سنويًا، إذ يرتبط هذا التراجع بعدة عوامل تشمل الحروب، الحصارات، وسياسات التجارة المفتوحة خلال العقدين الماضيين.

تسعى الحكومة من خلال خطة التنمية الوطنية 2024-2028 لتبني استراتيجيات تسهم في تعزيز عمل هذا القطاع، وتشجع على الاستثمار وتحديث التكنولوجيا الصناعية.

ويطالب معنيون بإصلاح جذري في آليات العمل لتعزيز مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد، وتحقيق نمو سنوي للصناعة.

 أسباب تراجع قطاع الصناعة

المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء مظهر محمد صالح، قال: أن هناك سببين أساسيين وراء تراجع مساهمة قطاع الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي إلى نسب متواضعة قد لا تتجاوز 1 في المائة سنوياً، نتيجة للتأثيرات السلبية للحروب والصراعات والحصار الذي تعرضت له البلاد نتيجة لسياسات النظام المباد، ومن جانب آخر هناك تأثير سلبي كبير لسياسة الباب التجاري المفتوح أو ليبرالية التجارة الخارجية، التي أدت إلى إغراق سلعي ما عطّل أغلب مفاصل الصناعة التحويلية للقطاعين الأهلي والحكومي".

وأضاف صالح في تصريح لـ "طريق الشعب"، ان هذا القطاع يضم حوالي 16 في المائة من قوة العمل الوطنية.

وأشار إلى أن "الحكومة، وفقاً لمنهاجها المصادق عليه من مجلس النواب في أكتوبر 2022 وخطة التنمية الوطنية للفترة 2024 - 2028، تتبنى استراتيجيات تشمل التمويل المشترك مع القطاع الخاص بنسبة تصل إلى 85 في المائة من الدولة، وتشجيع الاستثمارات لتحقيق الأهداف التنموية الكلية التي تقارب 5 في المائة سنوياً".

وتابع، أن "هذا يتطلب السير في القطاع الصناعي وتجديد التكنولوجيا الصناعية، حيث بدأت الحكومة بمنح الكفالات السيادية لخمسة مفاصل صناعية في القطاع الخاص، أولها الصناعات المرتبطة بالبنى التحتية، وصناعات الأدوية، والصناعات التحويلية البيتروكيميائية، وغيرها".

وبيّن، أن "هذه المبادرات تركز على تجديد خطوط الإنتاج وفقاً لأحدث المواصفات الفنية والرقمية، مما يعزز من قدرة التصنيع في البلاد".

وأكد صالح، أن انخفاض البطالة المستدامة ـ التي كانت تصل إلى مرتبتين عشريتين ولكنها انخفضت حالياً إلى 14.6 في المائة سنوياً ـ يعتمد على هبوطها إلى الكسر الطبيعي للبطالة البالغ 3 في المائة، معتبرا ان ذلك يتناسب عكسياً مع القدرة على ارتفاع التشغيل في القطاع الصناعي.

ولفت إلى انه خلال العقد المقبل، من المتوقع أن ترتفع مساهمة القطاع الخاص من 37 في المائة في الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي 53 في المائة، لكنه يرهن تحقيق ذلك بـ"تنويع الاقتصاد الوطني بالصناعة التحويلية".

صناعة السمنت أنموذجا

واستعرض المهندس ناصر المدني، مؤسس جمعية مصنعي الإسمنت في العراق، تاريخ الصناعة الوطنية في البلاد، والتي شهدت مراحل مختلفة من التطور والانتكاس على مدى العقود الماضية، موضحا أن "انطلاقة الصناعة العراقية تعود إلى خمسينيات القرن الماضي مع تشغيل معامل حكومية في مجالات متنوعة مثل الإسمنت، الصناعات الجلدية، النسيجية، الغذائية، السكر، الأدوية، والصناعات الميكانيكية والكهربائية والكيمياوية، بالإضافة إلى الأسمدة، الزجاج، البتروكيمياويات، والكبريت والفوسفات".

وقال المدني في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "فترة الثمانينيات شهدت ازدهار الصناعة العراقية بفضل توفر السيولة المالية وسيطرة القطاع الحكومي على السوق المحلية، إلا أن هذه الحقبة تبعتها انتكاسة كبيرة في التسعينيات، نتيجة الحصار الاقتصادي الدولي المفروض على العراق"، لافتا الى ان "هذا الحصار حال دون استيراد المعدات والمواد الاحتياطية، إضافة إلى الضربات العسكرية التي استهدفت المنشآت الصناعية".

وأضاف، أنّ "تدهور الوضع بلغ ذروته بعد عام 2003 جراء التدخل العسكري الأمريكي وسقوط النظام، ما أدى إلى توقف معظم المعامل وتدميرها، إلى أن بدأت جهود استعادة النشاط الصناعي تدريجياً بعد تشكيل حكومة مستقرة نسبياً في عام 2008. ومع ذلك، شهدت هذه الجهود انتكاسة جديدة في 2014 بسبب دخول تنظيم داعش الإرهابي، والذي قاد إلى توقف العمل في المصانع مجدداً".

وتابع الحديث بأن " عملية إعادة تأهيل المعامل بدأت بصورة فعلية في عام 2017 بعد تحرير المدن من سيطرة داعش، لكن العقبات المالية كانت تعيق التقدم. ونتيجة لذلك، لجأت وزارة الصناعة والمعادن إلى الاستثمار بالمشاركة مع القطاع الخاص".

وذكر المدني، أن هذه الشراكة حققت نجاحاً نسبياً، رغم تحديات الروتين والفساد المالي، حيث بلغت نسبة النجاح حوالي 70 في المائة.

وبالحديث عن صناعة السمنت، أكد المدني أن هذه الصناعة تُعد نموذجاً ناجحاً للصناعات الوطنية، بفضل دخول القطاع الخاص في إنشاء وتشغيل معامل حديثة.

وأثمرت جهود جمعية مصنعي السمنت في نهاية 2015 عن قرار حكومي بمنع استيراد السمنت مقابل التزام الجمعية بتوفير الكميات المطلوبة للسوق المحلية بجودة وسعر منافسين. وتم تنفيذ هذا الالتزام منذ عام 2016 دون مشكلات في الإنتاج أو الأسعار.

واختتم المدني بالتأكيد على ضرورة تسهيل إجراءات الاستثمار في القطاع الخاص والتركيز على الصناعات الاستراتيجية الكبرى من قبل الحكومة، مع التشديد على أهمية محاربة الفساد وإزالة الروتين الإداري، مشيرا إلى أن تحقيق هذه الخطوات سيؤدي إلى تطورات ملحوظة في الصناعة الوطنية، داعياً للاستفادة من تجربة صناعة الإسمنت كنموذج ناجح يُمكن البناء عليه لتعزيز التنمية الاقتصادية في العراق.

مجلس أعلى للتنمية والإصلاح

عامر الجواهري، مستشار في التنمية الصناعية، قال أن "القطاع الصناعي العراقي يواجه تحديات كبيرة تحول دون مساهمته الفاعلة في الاقتصاد الوطني"، مشددًا على ضرورة وضع خطط مدروسة وتوفير استثمارات ضخمة لتحقيق التنمية الصناعية المنشودة.

وأضاف الجواهري لـ "طريق الشعب"، أن "نسبة مساهمة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي لا تزال متدنية للغاية، حيث بلغت 1.8 في المائة في بداية خطة التنمية الوطنية 2024-2028، مع استهداف زيادتها إلى 2.2 في المائة خلال خمس سنوات".

وأشار الجواهري إلى أن هذا الهدف يتطلب معدلات نمو سنوية للصناعة تبلغ 4.4 في المائة، وهو ما يستدعي ضخ استثمارات كبيرة، على أن تكون 35 في المائة منها مقدمة من القطاع الخاص، وفق الفرضيات الحالية. لكنه أكد أن تحقيق ذلك يحتاج إلى جهود حكومية كبيرة لتمكين القطاع الخاص، وسط بيئة أعمال وصفها بأنها "ضعيفة للغاية"، بل تصل أحيانًا إلى مستوى غير ملائم للاستثمار.

وتناول الجواهري التحديات التي تواجه القطاع الصناعي العراقي، مشيرا إلى أن "العراق يعاني من بيئة أعمال غير تنافسية مقارنة بدول المنطقة، مع ضعف واضح في التزام الجهات المعنية بتنفيذ الوعود والمشاريع المعلنة".

وأوضح، أن "الصناعة تواجه مشكلات جوهرية، من بينها غياب التخطيط الواضح وعدم تفعيل المؤسسات الداعمة للقطاع الصناعي".

وأكد أن "النهضة الصناعية في العراق تتطلب تغييرًا في آليات العمل الحالية من خلال وضع أهداف ملموسة يمكن تحقيقها، مثل إنشاء وتشغيل ألف معمل صغير سنويًا ضمن خطة التنمية الوطنية، إلى جانب إعادة تشغيل المعامل الأهلية المتوقفة".

ودعا الجواهري إلى تفعيل دور مجلس التنسيق الصناعي ليكون بمثابة خلية عمل نشطة قادرة على قيادة قطاع الصناعة، مقترحًا أن يتولى هذا المجلس وضع خطط عملية في كل محافظة لتحديد عدد المعامل العاملة والمستهدفة.

وأكد على أهمية إنشاء مدن صناعية في كل محافظة لتوفير بيئة ملائمة للمشاريع الصناعية، حيث يجب أن تتوفر فيها جميع الخدمات والبنية التحتية الضرورية، مشددا على الحاجة إلى إنشاء المجلس الأعلى للتنمية والإصلاح لتولي المهام التنموية بشكل شامل ومستدام.

وواصل القول: إنّ هذا المجلس يجب أن يكون شموليا يغطي القطاعات المختلفة، مع التركيز على القطاع الصناعي، نظرًا لطبيعة استثماراته طويلة الأجل، مؤكدا أهمية تعزيز دور مديريات تمكين القطاع الخاص مثل المديرية العامة للتنمية الصناعية ودائرة التطوير والتنظيم الصناعي، وهما جهتان تابعتان لوزارة الصناعة.

وطالب بدعم اتحاد الصناعات العراقي بالتوازي مع اتحادات رجال الأعمال، مؤكدًا أن هذه المؤسسات يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في تحقيق النهضة الصناعية، منوها بالدور الحاسم للجهاز المصرفي في دعم القطاع الصناعي.

وأوضح أن البنوك يمكن أن تكون شريكًا أو ممولًا أساسيًا للمشاريع الصناعية، مبينا أن النهوض بالصناعة يتطلب دعمًا ماليًا مستدامًا، وهو ما لا يمكن تحقيقه بدون جهاز مصرفي قوي ومرن.

وتابع القول إن "العراق يحتاج إلى إصلاح شامل لبيئة الأعمال، وتفعيل مؤسسات التنمية الاقتصادية على المستويين الوطني والمحلي"، مشددا على "ضرورة تشكيل مجالس تنمية وإصلاح في كل محافظة لدعم الخطط التنموية وضمان تنفيذها بفعالية".

وخلص الجواهري الى أن "القطاع الصناعي بحاجة إلى إجراءات جادة وسريعة، بعيدًا عن الشعارات والوعود، لتحقيق التقدم المطلوب، وجعل العراق منافسًا في السوق الإقليمية والدولية".

عرض مقالات: