في ظل الاعتماد شبه الكامل على النفط، يبرز خفض الإنتاج الأخير كخطوة ضرورية ضمن التزامات العراق في اتفاق "أوبك+"، بهدف الحفاظ على استقرار الأسعار وتفادي تعميق عجز الموازنة العامة، التي تواجه تحديات متصاعدة في عام 2025.
ورغم أن التخفيض قد ينعكس سلبًا على الإيرادات المالية، إلا أن غياب الرؤية الاقتصادية البديلة يبقى المشكلة الأعمق؛ فاستمرار العراق في الاعتماد على النفط كمصدر شبه وحيد للدخل، دون تفعيل قطاعات مثل الزراعة، الصناعة وغيرهما، يزيد من هشاشة الاقتصاد أمام تقلبات الأسواق العالمية.
استقرار أسعار النفط
يقول المستشار المالي لرئيس الوزراء، د. مظهر محمد صالح، أن قرار العراق بخفض إنتاج النفط يأتي في إطار التزامه بحصته المقررة ضمن اتفاق "أوبك+"، ويضيف صالح في تصريح لـ "طريق الشعب"، أن "هذا الإجراء يعكس تمسك العراق بسياسة الحفاظ على استقرار أسعار النفط في السوق العالمية، لتجنب الضغط على الموازنة العامة واللجوء إلى الاقتراض لسد العجز".
ويشير إلى أن "موازنة العام 2025، كما وردت في قانون الموازنة الثلاثية رقم 13 لسنة 2023، تضمنت عجزًا افتراضيًا قدره 64 تريليون دينار، ما يجعل من الضروري الحفاظ على مستوى سعري يضمن الإيرادات المالية للدولة"، مبينا أن "وزارة النفط تمتلك القدرة الكاملة على إدارة ملف التصدير النفطي السنوي، فضلًا عن التحكم في الإنتاج المحلي"، مشيدًا بكفاءة وحكمة الوزارة في تبني سياسات مدروسة تحقق التوازن المطلوب.
أسباب عدم الالتزام
وفي ما يتعلق بعدم التزام العراق الكامل بالتخفيضات خلال الفترة الماضية، يجد صالح أن ذلك قد يعود إلى "أسباب تقنية"، موضحًا أن هناك عوامل تشغيلية وفنية تدفع إلى الاستمرار في تشغيل بعض الحقول النفطية لضمان استمرارية الإنتاج.
وأردف أن توقف بعض المنشآت عن العمل لفترات طويلة قد يؤدي إلى تدهور تقني أو أضرار تؤثر سلبًا على الطاقة الإنتاجية مستقبلاً.
وخلص الى القول: "لا أرى سببًا آخر لعدم الالتزام سوى هذا السبب التقني الحاكم، المرتبط بضرورات الحفاظ على البنية التحتية الإنتاجية للقطاع النفطي".
تقليص الانتاج
وفي سياق الحديث عن أسباب التخفيض، يقول الخبير الاقتصادي، نبيل المرسومي أن "الأسباب تعود لعدم التزام العراق الكامل بحصته الإنتاجية المقررة ضمن الاتفاق"، مشيرا إلى أن "العراق وابتداءً من شهر آذار الجاري، سيقلص إنتاجه من النفط الخام بمقدار 125 ألف برميل يومياً، على أن يستمر هذا الخفض حتى نهاية حزيران من عام 2026".
واكد المرسومي لـ "طريق الشعب"، أن "هذا الإجراء سيؤدي إلى تراجع صادرات العراق النفطية إلى حوالي 3.2 مليون برميل يومياً، ما سينعكس بشكل مباشر على الإيرادات المالية للبلاد، إذ يُتوقع أن تنخفض العائدات النفطية بنحو 262 مليون دولار شهرياً، أي ما يزيد على 3.19 مليار دولار سنوياً".
ويحذر المرسومي من أن "هذا التراجع في الإيرادات سيعمّق من عجز الموازنة الاتحادية للعام 2025، ما يضع الاقتصاد العراقي أمام تحديات إضافية في ظل استمرار اعتماده الكبير على العوائد النفطية كمصدر رئيس للدخل، وسط غياب واضح لبدائل اقتصادية فعالة".
ضعف الموقف التفاوضي
من جانبه، فصّل الخبير الاقتصادي دريد العنزي الحديث عن الوضع المالي والنفطي في البلاد، متناولًا قضية التخفيض الطوعي الجديد لإنتاج النفط، والذي يأتي ضمن التزامات العراق باتفاق "أوبك بلس".
وذكر العنزي في حديثه لـ "طريق الشعب"، أن "العراق من أكثر الدول التزاما بهذه التخفيضات"، لكنه يعاني من ضعف في الموقف التفاوضي بسبب ما وصفه بـ"التصدير غير المعلن وغير الرسمي" من إقليم كردستان، الأمر الذي يُضعف وحدة الملف النفطي العراقي أمام "أوبك بلس" ويضعف الموقف التفاوضي للحكومة المركزية.
وفيما يخص التخفيض الأخير، قال إن "العراق هو المبادر الأول بتطبيق الخفض البالغ 125 ألف برميل يوميا، ما يعني فقدان ما يقارب 8 ملايين دولار يوميا، أو نحو 3.25 مليارات دولار سنويا، إذا ما احتُسب سعر البرميل عند 70 دولارا"، لكنه يتوقع أن يجري تعويض هذه الخسارة جزئيا، إذا ما أدى التخفيض العالمي إلى رفع أسعار النفط، متوقعا أن يرتفع سعر البرميل إلى أكثر من 80 دولارا، وهو ما قد يخلق نوعا من التوازن المالي الذاتي.
ويشير العنزي الى أن "المشكلة الحقيقية لا تكمن في النفط أو أسعاره، بل في غياب الرؤية الاقتصادية الواضحة للحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2003 وحتى اليوم، مؤكدا انه "لا توجد لدينا، خطط او برامج، ولا أي صيغة لدعم الإنتاج المحلي أو لتقليل الاعتماد على الدولار".
العجز لا يعالج بالنفط وحده
ويضيف ان "العجز في الموازنة لا يُعالج فقط بالنفط، بل عبر تفعيل مصادر دخل داخلية حقيقية"، منتقدًا عدم تفعيل الضرائب، الإنتاج المحلي، الاستثمار الزراعي، وإعادة تصدير بعض المشتقات النفطية، والتي يمكن أن تخلق إيرادات مستقرة، حتى وإن كانت بالدينار العراقي.
كما ينتقد العنزي عدم متابعة الحكومة لعدد من المؤسسات العربية التي يملك العراق فيها حصصًا منذ عقود، مثل بعض الشركات التابعة للجامعة العربية، والتي تحقق أرباحا مستمرة لبقية الدول الأعضاء، بينما لا تعلم حكومتنا حتى أين تذهب هذه الإيرادات، ولا كيف يمكن استغلالها، مستشهدا على ذلك بـ "الشركة العربية للمنظفات"، مشيرًا إلى أن هذه الشركات يمكن أن تدرّ دخلا بالدولار بدون أي عناء، إذا ما تمت متابعتها وتفعيلها.
وفي ختام حديثه، شدد العنزي على أن العراق بحاجة إلى إصلاحات اقتصادية جذرية، تبدأ من الداخل، ولا تعتمد فقط على تقلبات النفط أو على المعالجات المؤقتة، لأن الأزمة بحسب تعبيره أعمق بكثير من مجرد انخفاض في الإيرادات.
وينبه إلى أن العراق بحاجة إلى إعادة بناء سياسته الاقتصادية والنقدية من الأساس، لتجاوز حالة التذبذب الدائم والارتهان للأسواق الخارجية.