اخر الاخبار

في بلدٍ تتقاطع فيه الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، تبقى أزمة السكن واحدة من أعقد المشكلات التي تثقل كاهل العراقيين. رغم أن أكثر من 70 في المائة من السكان يمتلكون مساكنهم وفقًا للتعداد السكاني الجديد، إلا أن اكتظاظ الغرف، وسكن العشوائيات، واستمرار العيش في بيوت مستأجرة، تكشف عن واقع سكني هش وعاجز عن تلبية أبسط حقوق الإنسان.

وفيما تبدي الحكومة اهتمامًا معلنًا بمعالجة الأزمة عبر مشاريع إسكانية جديدة، يشير خبراء إلى أن غياب التخطيط الواقعي والفساد المستشري، يقوضان أي جهود إصلاح حقيقية. وبين تضارب الأرقام والحقائق الميدانية، يبقى المواطن ينتظر حلولًا فعلية تخرجه من دوامة السكن غير المستقر نحو أفقٍ أكثر أمنًا وكرامة.

حالة اكتظاظ حقيقي

المتحدث باسم وزارة التخطيط، عبد الزهرة الهنداوي، قال أن نسبة العراقيين الذين يمتلكون مساكنهم تتراوح بين 72 إلى 73 في المائة.

وأضاف أن نحو 17 في المائة من العراقيين يسكنون في دور مؤجرة، فيما يسكن أكثر من 5 في المائة منهم في العشوائيات.

وأوضح الهنداوي في حديث خصّ به "طريق الشعب"، أن "نسبة الاكتظاظ السكني بلغت 29 في المائة"، مشيرا إلى أن هذه النسبة تعني أن أكثر من ثلاثة أشخاص ينامون في الغرفة الواحدة، ما يُعد دليلاً على وجود إشكالية حقيقية في قطاع السكن.

وأكد أن هذا التعداد السكاني كشف المشكلات الموجودة، والتي ستُعتمد لاحقاً كأساس لوضع الحلول والمعالجات المناسبة. وقال: "عندما نتحدث عن نسبة اكتظاظ تصل إلى 29 في المائة من مجموع السكان، فهذا يعني أن حتى من يمتلكون مساكن يواجهون مشكلة حقيقية، حيث أن 29 في المائة منهم يعيشون حالة اكتظاظ، مما يدل على حاجتهم أيضاً إلى وحدات سكنية جديدة لفك هذا الازدحام".

وبيّن أن التعداد وفر كشفاً حقيقياً ستتم إحالته إلى الجهات المعنية، كل بحسب اختصاصه، لوضع الحلول والمعالجات. متابعا انه "في قطاع السكن مثلاً، أظهر التعداد هذه النتائج المهمة، وسيؤخذ ذلك بعين الاعتبار ضمن المعالجات التي ستضعها الحكومة، من خلال مختلف مؤسساتها حسب اختصاصاتها وتوجهاتها".

وأشار إلى أن هناك اهتماما حكوميا بملف السكن، من خلال العمل على إنشاء مدن ومجمعات سكنية جديدة، وتوزيع قطع أرض سكنية مقدمة للمواطنين، فضلاً عن شمول شرائح معينة ببرامج توزيع الأراضي والوحدات السكنية.

واختتم الهنداوي حديثه قائلاً: "كل هذه الخطوات والمعالجات تأتي في ضوء ما كشفه التعداد من مشكلات حقيقية، وستمثل الأساس لوضع الحلول المناسبة في مختلف القطاعات، لاسيما قطاع السكن الذي يحظى باهتمام حكومي خاص".

ارقام جامدة

وقال المهندس المعماري سلوان الأغا، أن أزمة السكن في العراق تفاقمت نتيجة التعامل غير الواقعي مع البيانات المتعلقة بواقع المواطنين، مشيرًا إلى أن المعالجات الحكومية اعتمدت على أرقام جامدة ومجردة من التفاصيل الميدانية الضرورية.

وأضاف الأغا في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "غالبية المواطنين يسكنون في بيوت، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن هذه البيوت مملوكة بالكامل لهم أو أن أوضاعهم السكنية مستقرة"، مبينا أن "الكثير من المواطنين يسكنون في بيوت مرهونة أو غير مكتملة التمليك، أو يعيشون ضمن أقساط طويلة الأمد، ما يجعل وضعهم السكني هشًا وغير آمن".

وأشار إلى وجود تباين واضح في الاحتياجات السكنية، لافتا إلى وجود منازل فارغة تسكنها ثلاث عائلات فقط، في مقابل منازل مكتظة تضم أكثر من 12 فرداً، وهو ما يكشف عن غياب العدالة في توزيع المساحات السكنية.

وأضاف أن التعامل مع الأرقام دون تحليل واقعي لاحتياجات السكان أدى إلى نتائج غير دقيقة، وحجب الصورة الحقيقية عن صناع القرار.

وشدد الآغا على أن التصنيف التفصيلي لحالة كل مواطن ضروري لفهم الواقع السكني بشكل صحيح، بما في ذلك معرفة ما إذا كان يمتلك عقارًا كاملاً، أو يسكن بدفعات مالية غير مسددة، أو يعاني من نقص في الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء. وأشار إلى أن نحو 90 في المائة من المواطنين يقيمون حاليا في مساكن، لكن من بين هؤلاء، هناك نحو 40 في المائة يعيشون في بيوت غير مستقرة منذ خمس سنوات أو أكثر، سواء بسبب مشاكل تمليك أو تأخر في تسديد المستحقات المالية، ما يؤثر على استقرارهم المعيشي.

وبيّن أن المعالجة الحقيقية تبدأ من إجراء دراسات ميدانية وتفصيلية دقيقة، تتضمن معلومات شاملة عن كل مواطن، وليس الاكتفاء بتعداد سكاني شكلي. واعتبر أن التخطيط السليم يجب أن يستند إلى تصنيف دقيق للاحتياجات، سواء كانت عاجلة أو بعيدة المدى، لتمكين الحكومة من وضع سياسات فعّالة لمعالجة أزمة السكن بشكل جذري.

وخلص الى أنّ نجاح أي خطة إسكانية يعتمد على فهم واقعي ودقيق لاحتياجات السكان، بعيدًا عن التعامل البيروقراطي الجامد مع الأرقام والبيانات.

10 ملايين عراقي تحت خط الفقر

ويرى المحلل السياسي محمد زنكنة، أن العراق يعاني من أزمات عميقة، في مقدمتها الفقر وأزمة السكن، موضحًا أن أكثر من عشرة ملايين عراقي يعيشون تحت خط الفقر، أي أنهم يفتقرون إلى المسكن والعمل والدخل الكافي لتلبية احتياجاتهم الأساسية.

وقال زنكنة لـ "طريق الشعب"، أن "أزمة السكن تمثل أحد أبرز المشكلات التي تعرقل تقدم العراق"، مؤكداً أن استمرارها يعود إلى جملة من الأسباب، أبرزها غياب الخطط الحكومية الواضحة لمعالجتها، واستيلاء رجال أعمال مرتبطين بجهات سياسية متنفذة على مساحات واسعة من الأراضي العامة، حيث تقام عليها مشاريع استثمارية ضخمة تخدم مصالح فئات محددة دون معالجة جوهرية للأزمة.

وأضاف ان التظاهرات الشعبية لم تحقق أية نتائج ملموسة في مجال إصلاح أزمة السكن أو إعادة هيكلة الدولة، مشيراً إلى أن معظم تلك التظاهرات تُوظف لتحقيق أهداف ومكاسب شخصية لصالح أطراف سياسية أو بعض النواب المحسوبين على أحزاب معينة.

وزاد بالقول: إن العلاقة بين قادة التظاهرات والمشاركين تنقطع فور تحقيق المصالح الخاصة، ما يفقد الاحتجاجات زخمها وتأثيرها. وأكد زنكنة أن الاستحواذ على الأراضي يتم بتسهيلات من جهات نافذة داخل مؤسسات الدولة، وفي بعض الأحيان بدعم مباشر من أعضاء في مجلس النواب، ما يعزز من تغلغل الفساد السياسي والمالي.

وأوضح، أن هذا الواقع يعرقل إقامة مشاريع إسكانية حقيقية تستهدف الشرائح الفقيرة والمعدومة، مشيرا الى أن هناك عوامل تسهم في تفاقم أزمة السكن، من بينها وجود تدخلات خارجية تؤثر على القرارات المحلية، فضلاً عن غياب سياسات واضحة لتنظيم النسل، وانتشار ظاهرة الزواج خارج الأطر القانونية، ما يسهم في ارتفاع معدلات الإنجاب غير المنظم، ويزيد من أعداد الأطفال الذين يولدون بلا مأوى أو حماية قانونية.

واكد زنكنة أن حل أزمة السكن في العراق يتطلب إرادة سياسية حقيقية، ووضع خطط شاملة تشارك فيها مؤسسات الدولة بجدية، بعيداً عن المصالح الضيقة والتدخلات الخارجية، لضمان بناء مجتمع مستقر يوفر السكن اللائق لكل المواطنين.

عرض مقالات: