تتخذ الجريمة المنظمة في العراق أشكالًا متطورة تتجاوز السرقات التقليدية لتلامس أنشطة الاتجار بالبشر وبالمخدرات وبالسلاح، وسط بيئة أمنية واجتماعية هشّة. وفي وقت تؤكد فيه الجهات الرسمية أن عصابات محلية تقف وراء معظم الجرائم بدوافع مادية، يحذر خبراء من وجود شبكات إجرامية عابرة للحدود، تغذيها ظروف محلية مزمنة من البطالة، وتفشي السلاح، وضعف الردع القانوني. وفي خضم هذا المشهد، يؤكد مختصون ضرورة اعتماد حلول استراتيجية تبدأ من إصلاح النظام التعليمي والاقتصادي، وصولاً إلى تفعيل العمل الاستخباري وتطبيق العدالة بصرامة.

ووفقًا لأحدث التقارير الصادرة عن منظمة الشفافية الدولية، احتل العراق المرتبة 140 عالميًا في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024، محققًا درجة 26 من 100.

أما في ما يتعلق بحجم تجارة غسل الأموال، فتشير التقديرات إلى أن حجم الأموال المغسولة عالميا يتراوح بين 950 مليار دولار و1.5 تريليون دولار سنويا، مع العلم أن 70 في المائة من هذه الأموال تأتي من تجارة المخدرات، بينما يتوزع الباقي بين أنشطة أخرى مثل تجارة السلاح، وتزييف العملات، والاختلاس، والرشاوى الحكومية، والجريمة المنظمة، والتهرب الضريبي.

تطور الجرائم

ويقول الخبير الأمني والسياسي سرمد البياتي، إن الجريمة المنظمة في العراق تطورت في الآونة الأخيرة وأصبحت تتخذ أشكالًا متعددة، مشيرا إلى أن الدافع المالي بات يستقطب شرائح متنوعة من المجتمع للانخراط في هذه الأنشطة الإجرامية.

وأوضح البياتي، أن الجريمة المنظمة ليست حكرا على العراق، بل هي ظاهرة موجودة في أغلب دول العالم، إلا أن الوضع العراقي مختلف نتيجة للتاريخ الحافل بالنزاعات والحروب. وأضاف انه "إذا تجاوزنا مرحلة الانقلابات في الخمسينيات والستينيات، فإننا نبدأ فعليا من الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، التي خلفت تأثيرات نفسية عميقة على المجتمع، مرورا بحرب الخليج ثم حرب 2003، وما تبعها من تداعيات أمنية واجتماعية واقتصادية".

وقال البياتي في حديث لـ"طريق الشعب"، أن "وقوع السلاح بين أيدي المواطنين بعد هذه الحروب أدى إلى تفشي العنف، ما ساهم في نشوء بيئات حاضنة للجريمة".

وانتقد البياتي ضعف تطبيق العقوبات، خاصة أحكام الإعدام، التي تُصدر من قبل القضاء ولكن لا تُنفذ بالشكل المطلوب، مؤكدا أن "تنفيذ العقوبات القضائية أمر ضروري لفرض هيبة الدولة وسيادة القانون".

وشدد البياتي على أهمية العمل الاستخباري في منع الجريمة قبل وقوعها، بدلا من الاكتفاء بمعالجتها بعد وقوعها.

العوامل الحاسمة في المحاسبة

وربط المحلل السياسي عدنان الكناني، زيادة ونقص الجريمة بشكل مباشر بوجود نظام حكومي عادل وفاعل.

وقال الكناني، إن النظام الحكومي بما يتضمنه من سياسات اجتماعية واقتصادية، هو العامل الحاسم في معالجة أو تفاقم ظاهرة الجريمة.

وأوضح الكناني لـ "طريق الشعب"، أن "العدالة الاجتماعية ووجود فرص حقيقية للشباب، سواء عبر مراكز لاحتضان طاقاتهم أو من خلال برامج توعية في المدارس والمعاهد والجامعات، يمكن أن تنقل المجتمع من حالتي الجهل والفقر إلى الوعي والثقافة".

وأضاف أن المثقفين والمستقلين ماديًا يشكلون مخرجات إيجابية للمجتمع، بينما يبقى الجهل والفقر من أبرز مسببات الجريمة. وأشار الكناني إلى أن انعدام أماكن الترفيه والأنشطة الشبابية دفع شريحة واسعة من الشباب إلى تعاطي المخدرات والاتجار بها، كما أسهم في تصاعد معدلات الجريمة المنظمة، وتنامي ظواهر مثل القتل والخطف والتسلح غير المشروع، محذرًا من أن الوضع قد يتفاقم في المستقبل القريب إذا لم تُتخذ إجراءات جذرية.

وأكد أن الحكومة هي "المسؤول الأول والأخير عن حالة الجريمة في العراق، سواء من حيث تفشيها أو الحد منها". واعتبر أن الحل يكمن في الاستثمار الحقيقي في الشباب، سواء من خلال توفير فرص العمل، أو الإسهام في مشاريع إعادة الإعمار، أو عبر تعزيز التعليم والإصلاح.

واختتم الكناني بقوله إن على الدولة أن "تتعلم من تجارب الدول التي سبقتها في استثمار الطاقات الشابة بالشكل الأمثل"، لأن العراق يمتلك قدرات هائلة، ولكن الظروف الحالية تجعل من الصعب تحمّل هذا الواقع دون حلول استراتيجية طويلة الأمد.

شبكات دولية تدير الجرائم المنظمة

فيما أكد الخبير الأمني أحمد الشريفي وجود شبكات إجرامية عربية ودولية تنشط في تنفيذ عمليات سرقة كبرى وجرائم منظمة داخل العراق، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن تأثيرها لا يزال محدوداً مقارنة بالعصابات المحلية.

وقال الشريفي في حديث لـ"طريق الشعب"، إن "العراق ليس بمعزل عن أنشطة شبكات الجريمة المنظمة الدولية، لكن لا يمكن القول إنها منتشرة أو تنفذ عمليات واسعة داخل البلاد".

وأضاف ان "الغالبية العظمى من الجرائم، خصوصاً السرقات، تنفذها عصابات محلية، وغالباً ما تكون بدوافع مادية أو نتيجة خلافات شخصية".

ونوه الخبير الأمني إلى أن الأجهزة الأمنية حققت تقدماً ملموساً في هذا الملف، مؤكدا ان "هناك إنجازات واضحة في ملاحقة هذه العصابات، والعديد من الجرائم تكتشف خلال فترات زمنية قصيرة، مما يعكس تطوراً ملحوظاً في آليات التحقيق والاستجابة الميدانية".

عرض مقالات: