برغم تكرار مشاهد الحرائق في العراق وتزايدها المقلق، لا تزال المعالجات دون المستوى المطلوب، وسط غياب إجراءات رادعة وحلول جذرية.
وتسجل سنويا آلاف الحوادث، التي تحصد الأرواح وتتسبب بخسائر فادحة في الممتلكات، بينما تظل الأسباب نفسها تتكرر: تماس كهربائي، مواد بناء سريعة الاشتعال، تخزين عشوائي، وإهمال واضح لإجراءات السلامة.
كان آخر حريق قد اندلع يوم الثلاثاء، عندما التهمت النيران العديد من المواقع في جبال دلوجه الواقعة ضمن قضاء قرداغ بمحافظة السليمانية، وذلك بعد أيام من اندلاع حريق داخل مدينة ألعاب في قضاء المقدادية شمال شرقي محافظة ديالى. وقبل عطلة العيد، تم إخماد حريق اندلع في مخزن للسيراميك بمنطقة العامرية في بغداد. ووفقاً لبيان مديرية الدفاع المدني، فإن الحريق "اندلع داخل أربعة مخازن وأربعة محال تجارية مشيّدة من ألواح السندويج بنل وألواح الجينكو، المخالفة لتعليمات السلامة ومتطلبات الدفاع المدني".
ما يجري لم يعد مجرد حوادث فردية معزولة، بل بات انعكاساً مباشراً لأزمة أعمق، تتصل بغياب ثقافة الوقاية، وضعف التشريعات، وتهالك البنى التحتية في المؤسسات العامة والخاصة على حد سواء.
ويحذر مختصون من أن استمرار تجاهل هذه المنظومة يؤدي إلى مزيد من الكوارث، ما لم يُعَد النظر بجدية في أساليب التخطيط والرقابة وتطبيق القوانين.
التجاوزات والاهمال
وتتصاعد ألسنة لهب في زوايا مهملة من مؤسسات يُفترض أنها تحمي الأرواح. لكن الواقع، كما يصفه حيدر نوري من الهلال الأحمر، مختلف تماما: واقع يسكنه الإهمال والتجاوزات التي تحولت إلى وقود جاهز لأي كارثة قادمة".
يقول نوري لـ"طريق الشعب"، إن "الحرائق داخل مؤسساتنا الحكومية، خصوصا الصحية، لم تعد حوادث معزولة. إنها تراكمات مستمرة من سوء التخزين، ورداءة البناء، وانعدام الرقابة".
ويشير نوري إلى أن "أغراضا تالفة ومستعملة تُخزن بشكل عشوائي، في أماكن لا تصلح لهذا الغرض، دون أن تُزال أو تُفرز بشكل آمن. هذه المواد بعضها قابل للاشتعال تبقى مهملة وسط أنظمة لا تتحرك إلا بعد الكارثة".
ويضيف نوري بأسى: "الكرفانات المبنية من مواد غير مقاومة للنار مثل (الساندويتش بانل) ما زالت موجودة، رغم التحذيرات. هذه المواد قد تتحول إلى محرقة في لحظة واحدة فقط"، لافتا الى أن إجراءات السلامة شكلية فقط، غالبا ما تكون مجرد "حبر على ورق". النفايات الطبية الخطرة لا تُعالج أو تُتلف كما يجب. بعض المستشفيات تتبع معايير بسيطة، لكن أخرى تفتقر لأبسط أسس الحماية.
ويرى أن دور الدفاع المدني يجب أن يكون أكثر من مجرد رد فعل: "من المفترض أن يكون داخل المؤسسات الحكومية والخاص قسم دفاع مدني يراقب الأبنية، التخزين، ويشرف على مطابقة البناء لمواصفات السلامة. مثل ما موجود بباقي الوزارات. لكن للأسف، لا أحد يتابع فعليا، والإهمال واضح".
الأخطر من كل ذلك كما يقول هو أن "مخارج الطوارئ مجرد ديكور"، ويضيف: "نادراً ما أجد سلم طوارئ فعال. حتى لو كان موجودا، اما مغلق بقفل، او يحول لمخزن، او ضائع مفتاحه وهذه ليست سلالم نجاة، هذه مصائد موت".
ضعف قانوني يمنع الردع
فيما يقول مشرق عبد الخالق، مدير عام المركز الوطني للصحة والسلامة المهنية في وزارة العمل، إن المركز يعمل على تنفيذ واحدة من أبرز مهامه، وهي تقييم بيئة العمل في مختلف مؤسسات الدولة، لا سيما في القطاع العام، عبر زيارات ميدانية تفتيشية دورية.
ويوضح عبد الخالق لـ "طريق الشعب"، أن فرق التفتيش التابعة للمركز تقوم برصد وتوثيق كافة المخالفات والملاحظات في مواقع العمل، وتشمل هذه المخالفات: التلوث، المخاطر التي قد تؤدي إلى إصابات، أو الحوادث الناتجة عن الإهمال، مثل عدم الالتزام باستخدام السلالم الآمنة أو تدابير الوقاية الأخرى. وتُرفع التقارير التفتيشية بعد الزيارات إلى الدوائر المعنية، بهدف معالجة المخالفات وتصحيح الوضع القائم.
ويواصل عبد الخالق القول أن "المركز، وبعد مضي 6 أشهر على إصدار التقرير، يعاود إرسال فريق تفتيشي آخر لمتابعة مدى التزام الدائرة بإزالة المخالفات المسجلة". لكن برغم الجهود، فأن المركز يفتقر إلى سلطة قانونية مباشرة تُلزم الدوائر المعنية بتنفيذ التوصيات، وذلك في ظل غياب قانون خاص بالصحة والسلامة المهنية في العراق. إلا أن المركز، بحسب عبد الخالق، يحمل نفسه مسؤولية إبلاغ الجهات المختصة وتوثيق المخالفات، مؤكدًا أن "المسؤولية القانونية تقع بعد ذلك على عاتق الدائرة المعنية في حال وقوع أي ضرر أو إصابة في مواقع العمل".
أبنية خارج المتابعة والرقابة الحكومية!
بدوره، قال مختص في شؤون السلامة العامة أسعد عبد سلام، إن العراق يشهد سنويا ارتفاعا مقلقا في معدلات الحرائق، والسبب الأبرز لذلك هو عدم التزام المواطنين وأصحاب المحال التجارية والمخازن والمجمعات بإجراءات السلامة الأساسية، مشيرا إلى أن ما يحدث "ليس مجرد إهمال فردي، بل نتيجة تراكمات في التخطيط والرقابة والوعي".
وأضاف عبد سلام لـ "طريق الشعب"، أن "من أبرز مظاهر هذا الخلل هو غياب وسائل الإطفاء البسيطة مثل طفايات الحريق في معظم المحال والمخازن، فضلا عن انعدام أنظمة الإنذار المبكر في الأبنية التجارية والصناعية، مما يجعل الحريق يبدأ ويتفاقم دون أن يلاحظه أحد أو يتم التعامل معه في الوقت المناسب".
وأوضح أن المشكلة أعمق من مجرد غياب الأدوات، إذ تعود في جذورها إلى ضعف ثقافة الوقاية المجتمعية، وانعدام الشعور بالمسؤولية تجاه السلامة العامة. وقال: "الناس لا يدركون أن تجاهل وسيلة إنذار أو عدم وضع مطفأة قد يكلّف حياة إنسان. هناك قناعة سائدة بأن الحريق قدر، وليس شيئا يمكن منعه أو الاستعداد له".
وأشار الباحث إلى أن استخدام مواد بناء شديدة الاشتعال مثل ألواح الساندويج بنل، والتي تستخدم بكثرة رغم خطورتها، يفاقم من الكوارث، مؤكدا أن هذه المواد "تعمل كوقود سريع الاشتعال بمجرد اندلاع الشرارة الأولى".
كما ألقى عبد سلام باللوم على الجهات الرسمية، قائلاً إن هناك فجوة واضحة في المتابعة والرقابة، فالكثير من الأبنية التجارية لا تمتلك مخططات هندسية ولا تسجل لدى الجهات الحكومية، ما يجعل من الصعب مراقبتها أو مساءلتها. وأضاف: "لدينا آلاف المحال والمخازن التي نشأت بشكل عشوائي دون إشراف هندسي أو دفاع مدني، ومع غياب قاعدة بيانات واضحة، تصبح المتابعة شبه مستحيلة".
ويرى عبد سلام أن أحد الأسباب الجوهرية لضعف الالتزام هو غياب الردع القانوني، فحتى في حال وجود مخالفات، نادرا ما تطبق العقوبات أو تُغلق الأبنية المخالفة.
وقال: "إنْ لم يكن هناك ثمن لعدم الالتزام، فلن يلتزم أحد. الناس تتصرف بحسب الواقع، والواقع اليوم يقول إن السلامة اختيارية، وليست واجب".
كما انتقد البنية التحتية للإنذار المبكر، موضحا أن أنظمة الإنذار المتقدمة التي ترتبط مباشرة بمراكز الدفاع المدني نادرة الاستخدام في العراق، وغالبا ما تعتمد الأبنية على مجسات بسيطة غير فعالة أو لا تمتلك أي أنظمة إنذار على الإطلاق.
وتابع ان "الحرائق ليست أقدارا إلهية، بل نتائج حتمية لسلسلة من الإهمال وسوء الفهم وغياب التخطيط. إن لم نبدأ بإصلاح جذري في ثقافة السلامة، وتفعيل القوانين، وتوفير البنى التحتية، فإن أعداد الضحايا ستستمر في الارتفاع، عاما بعد عام"، وأضاف ان "خلال عام 2024 سجل العراق أكثر من 8500 حادث حريق".
أسباب الحرائق متعددة
من جانبه، بين مدير إعلام الدفاع المدني، نؤاس صباح، أن ارتفاع درجات الحرارة في البلاد تسبب بزيادة ملحوظة في حوادث الحرائق، مشيراً إلى أن فرق الدفاع المدني تمكنت خلال الساعات الماضية من السيطرة على عدد من الحوادث دون تسجيل أي إصابات بشرية، مع تقليل الأضرار المادية إلى أدنى حد ممكن.
وأوضح صباح في حديث أن "أسباب الحرائق تتنوع ما بين تيبس الحشائش والأعشاب في المناطق المفتوحة، واحتراق النفايات في المقالع، بالإضافة إلى تزايد الضغط على منظومة الطاقة الكهربائية في المناطق السكنية"، لافتاً إلى أن "تذبذب التيار الكهربائي وتداخل الأحمال بين المولدات والشبكة الوطنية يشكل عاملاً رئيسياً في اندلاع الحرائق".
وأشار إلى أن "الدفاع المدني يعمل وفق قانون رقم 44 لسنة 2013، الذي ينص على إجراء كشف نصف سنوي في مختلف القطاعات العامة والخاصة لمتابعة تطبيق إجراءات السلامة". وأضاف أن "الجهات غير الملتزمة تُحال إلى جلسة فصل إدارية تشبه المحكمة المصغرة، ويجري خلالها فرض غرامات مالية تتراوح بين 250 ألفاً إلى مليون دينار".
وكشف صباح عن مساعٍ جارية لتعديل القانون، قائلاً: "نعمل حالياً على تعديل التشريعات بحيث تشمل العقوبة المشروع المخالف نفسه وليس فقط صاحب المشروع، وقد تصل العقوبة إلى إغلاق المشروع بالكامل حتى يتم استيفاء شروط السلامة".