يشهد العراق تحوّلاً حادّاً في أزمة المياه، من مرحلة الشحة إلى مرحلة الندرة، ما يضع الأمن الغذائي للبلاد على المحك. هذا التحوّل يشير إلى أن نصيب الفرد من الموارد المائية أصبح أقل من 1000 متر مكعب سنوياً في مناطق واسعة، ووصل إلى حدود 500 متر مكعب في بعض المحافظات، ما يعكس حجم الخطر الذي يهدد الزراعة والغذاء المحلي.
ويرى خبراء أن الأزمة الحالية نتيجة تضافر عوامل جيوسياسية وبيئية وإدارية. من الناحية الجيوسياسية، يمثل نهرا دجلة والفرات المصدر الرئيس للمياه في العراق، نحو 70 في المائة من تدفقهما يأتي من تركيا وإيران، حيث أدت مشاريع الري والسدود التركية، أبرزها مشروع GAP، إلى خفض حصص العراق بشكل كبير، فيما قامت إيران بتحويل مجاري الروافد الرئيسية لدجلة، مثل أنهار الكارون والكرخة، مما زاد من تدهور مناسيب شط العرب.
إلى جانب ذلك، ساهمت التغيرات المناخية والجفاف في تعميق الأزمة، بانخفاض الأمطار وارتفاع درجات الحرارة، وزيادة معدلات التبخر من الأنهار والسدود، ما يقلص كمية المياه المتاحة للاستخدام الزراعي والمنزلي.
ويترتب على ندرة المياه آثار مباشرة وخطيرة على الأمن الغذائي والزراعة: فقد تم تقليص المساحات المزروعة إلى أقل من النصف، خصوصاً محاصيل الحنطة والشعير، الأمر الذي يزيد الاعتماد على الاستيراد. كما أدى انخفاض تدفق المياه النظيفة إلى ارتفاع نسبة الملوحة في الأراضي الزراعية، خصوصاً في الجنوب، ما يجعلها غير صالحة للزراعة أو يتطلب استصلاحاً بتكاليف باهظة.
ولا تقتصر التداعيات على الأراضي، بل تشمل الهجرة الريفية إلى المدن بسبب تدمير المحاصيل وقلة المردود المادي، ونقص اليد العاملة الزراعية، فضلاً عن تدهور الثروة الحيوانية بسبب جفاف الأهوار ونقص الغطاء النباتي، ما يؤدي إلى نفوق الحيوانات وارتفاع أسعار اللحوم ومنتجات الألبان.
أن استمرار هذا الوضع دون خطط حكومية عاجلة وحازمة، تشمل سياسات دبلوماسية مائية، واعتماد تقنيات ري حديثة، وتنويع المحاصيل، سيجعل العراق عرضة لانهيار الأمن الغذائي والاعتماد شبه الكلي على الأسواق الخارجية لتلبية الاحتياجات الأساسية.
العراق اليوم أمام مفترق طرق؛ فإما اتخاذ إجراءات سريعة لمواجهة تحدي المياه، أو مواجهة أزمة غذائية وبيئية واجتماعية قد تتفاقم في السنوات القادمة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
مهندس زراعي استشاري