رغم مرور سنوات على المطالبات بإقرار قانون يحمي النساء من العنف الأسري، ما زالت هذه الظاهرة تشكّل واحدة من أكثر القضايا الاجتماعية إلحاحًا في العراق، وسط تصاعد معدلاتها وضعف الإجراءات الحكومية والقانونية للحد منها. وتؤكد ناشطات وحقوقيات أن غياب التشريعات الرادعة وهيمنة الأعراف العشائرية ساهما في تطبيع العنف ضد النساء وتحويله إلى سلوك مقبول في كثير من البيوت العراقية.
وتشير بيانات رسمية إلى أرقام مقلقة تتعلق بحجم الانتهاكات داخل الأسرة، فيما حذرت حقوقيات من أن استمرار هذا الواقع دون تدخل تشريعي جاد، سيقود إلى مزيد من التفكك الاجتماعي، ويفاقم عديد الضحايا الصامتات خلف الجدران.
ضعف القانون!
تؤكد الناشطة النسوية سرى سالم، أن العنف ضد النساء ما زال يمثل أحد أكبر التحديات التي يعاني منها المجتمع العراقي، في ظل صعوبة إيجاد حلول جذرية أو حتى الحد من نسب حدوثه. وتُرجع سالم السبب الرئيس إلى ضعف المنظومة القانونية أمام سطوة الأعراف والتقاليد العشائرية، ما أدى إلى انتشار الظاهرة وتكريسها كجزء من الواقع الاجتماعي اليومي.
وتقول سالم لـ"طريق الشعب"، إن هذا الخلل القانوني والاجتماعي مهّد الطريق لعدم الإفصاح عن الكثير من حالات العنف ضد النساء، بسبب وصمة العار الاجتماعية التي تلحق بالمرأة إن تجرأت على الشكوى أو البوح بما تتعرض له داخل أسرتها أو مجتمعها.
وتضيف أن "بعض المجتمعات في العراق لا تزال ذكورية إلى حدّ كبير في نظرتها للعنف الأسري، إذ يُنظر إلى الضرب على أنه من حقوق الرجل، بينما تُجبر المرأة على تقبّله كأمر طبيعي لا يجوز الاعتراض عليه".
وتشير الى ان غالبية النساء اللواتي يتعرضن للتعذيب أو العنف المنزلي، يتجنبن اللجوء إلى القانون، بسبب الخوف من نظرة المجتمع، إذ تُعتبر زيارة المرأة لمركز الشرطة "نقيصة أخلاقية" قد تجلب لها عقاب مضاعف من الأسرة أو العشيرة.
وبحسب تقديرات بحثية حديثة، فإن أكثر من مليوني امرأة في العراق يتعرضن للعنف سنوي، في حين يلتزم جزء كبير منهن الصمت القسري خوفًا من العار أو الانتقام.
وترى سالم أن "هناك عادات وتقاليد اجتماعية تلعب دورا خطرا في تبرير العنف وترويجه بوصفه سلوكا تأديبيا مشروعا ضد النساء، خاصة مع وجود حجج دينية أو عرفية تُستخدم لتبرير أفعال العنف وإعفاء مرتكبيها من العقاب أو حتى اللوم" على حد قولها.
وتضيف أن المشكلة لا تقتصر على القوانين أو الأعراف فحسب، بل تمتد إلى التنشئة الاجتماعية التي كرّست فكرة أن العنف "حق من حقوق الرجل"، حتى باتت بعض النساء يؤمنّ بأحقية الرجل في استخدامه كوسيلة تأديب.
وتختتم سالم حديثها بالتأكيد على أن أحد أبرز الأسباب التي تعيق النساء عن مواجهة هذا الواقع هو انعدام الغطاء الاقتصادي وضعف الاستقلال المادي، الأمر الذي يجعل كثيرات عاجزات عن مغادرة بيئة العنف أو اتخاذ موقف قانوني يحفظ كرامتهن واستقلالهن.
أرقام مقلقة!
وفي السياق، أعلن المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان عن تسجيل أكثر من 53 ألف حالة عنف أسري خلال العامين ونصف الماضيين، فيما تشكل النساء النسبة الأكبر من الضحايا.
وقال رئيس المركز فاضل الغراوي لـ"طريق الشعب"، إن البيانات الرسمية الصادرة عن مجلس القضاء الأعلى تُظهر تزايد مستمر في معدلات العنف داخل الأسر، مبينا أن عام 2022 شهد تسجيل 21,595 حالة، تلاه عام 2023 بـ18,436 حالة، فيما بلغ عدد الحالات خلال النصف الأول من عام 2024 نحو 13,857 حالة.
واضاف الإحصاءات إلى أن العنف بين الأزواج استحوذ على النصيب الأكبر بنسة٩٢ في المائة من مجموع الحالات، منها ٧٥ في المائة اعتداءات من الأزواج على الزوجات، مقابل ١٧ في المائة من الزوجات على الأزواج، في حين بلغت نسبة العنف ضد الأبناء ٦ في المائة.
وتابع الغراوي، أن تصاعد هذه الظاهرة لا ينفصل عن جملة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية، أبرزها غياب الوعي الأسري، وتفاقم الأزمات المعيشية، وضعف الالتزام الديني، وسوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، فضلًا عن زيادة حالات الخيانة الزوجية وتعاطي المخدرات التي باتت تشكل تهديدًا خطيرًا لبنية الأسرة العراقية.
أما على الصعيد القضائي، فقد بلغ عدد دعاوى العنف الأسري المسجّلة خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2024 نحو 13,857 دعوى، معظمها تتعلق بالعنف البدني. وأوضح المركز أن 3,101 متهم أُخلي سبيلهم بكفالة، وصدرت أحكام بحق 100 شخص، بينما تم الإفراج عن 1,196 آخرين. كما تم الصلح أو الترضية في نحو 4,400 حالة، ولا تزال 1,500 قضية قيد المتابعة القانونية.
وحذر رئيس المركز من أن استمرار هذه المؤشرات ينذر بـ"مخاطر اجتماعية جسيمة" إذا لم تتخذ الجهات المعنية إجراءات وقائية وتشريعية عاجلة، داعيا الى إطلاق حملات وطنية للتوعية الأسرية ومكافحة العنف المنزلي، بمشاركة المؤسسات الحكومية والدينية والتعليمية ومنظمات المجتمع المدني.
كما شدد على ضرورة إقرار قانون مكافحة العنف الأسري المعطل منذ سنوات، مؤكدًا أن إقراره سيمثل "خطوة أساسية في حماية النساء والأطفال وكبار السن من الانتهاكات التي تجري خلف الأبواب المغلقة".
لا حماية للمعنفين
تقول السراي إن الإجراءات المتوفرة حالياً لا ترقى إلى مستوى الحماية المطلوبة، فـ "حتى إذا اشتكت الزوجة أو الابنة أو الابن من الشخص المعنف، لا تُتخذ بحقه خطوات جدية، وكل ما تفعله الشرطة المجتمعية هو إلزامه بالتوقيع على تعهد، ثم إعادة الضحية إلى بيتها"، على حد وصفها.
وتشير إلى أن هذا الإجراء يترك الضحية في مواجهة خطرٍ أكبر، إذ قد تتعرض للحبس أو المنع من التقدّم بشكوى جديدة، وقد لا يحاسب المعنِف إلا بعد وقوع جريمة مروعة، كحالة القتل مثلاً.
وترى السراي أن القوانين العراقية الخاصة بحماية الأسرة ضعيفة جداً، وأن الحكومة "عاجزة عن توفير أبسط مقومات الحماية". مثل دور الإيواء للضحايا، بسبب القيود والعادات العشائرية التي تعتبر لجوء المرأة أو الشاب إلى دار إيواء "عيباً أو مصيبة".
وتضيف أنَ "السيطرة العشائرية الكبيرة على تطبيق القانون تجعل من الصعب تنفيذه بالشكل الصحيح".
وختمت السراي حديثها بالتأكيد على ضرورة سن قوانين حقيقية للحد من العنف الأسري، وإنشاء دور إيواء آمنة في جميع المحافظات، تكون مسؤولة عن حماية الضحايا وضمان عدم إعادتهم إلى بيئة الخطر.