اخر الاخبار

لم تكن العدالة الاجتماعية إلا الوجه الاقتصادي لمفهوم الدولة الحديثة، أو أنها الرافع الأساس لهيكل الدولة المدنية، بعد أن استقر الفكر الإنساني بعد ما جاءت به المدرسة الماركسية من أن أساس الصراع هو التفاوت الطبقي بين الناس واستحواذ الفئة القليلة من المجتمعات على الموارد الطبيعية وتسخيرها لصالح أصحاب الرساميل وقادة النفوذ السياسي، وقد صار مفهوم تركز الثروة عند الأقلية قانونا يشير إلى ضرورة إعادة النظر في الثروة ومسألة إعادة توزيعها وتوزيع فرص العمل بالعدل بين الناس والعمل على تقليل الامتيازات أو إلغائها لأنها تتناقض ومبدأ المساواة، وأن تراكم الثروة ( برأي هذه المدرسة) في قطب واحد من المجتمع هو في نفس الوقت تراكم الفقر والبؤس في القطب الآخر، وان هذا التراكم يولد الفقر الذي شاع ونما مؤخرا وبشكله المؤلم في العراق، وأن تتابع الأنظمة السياسية في العراق خلال قرن منذ ولادة دولته عام 1921 لم يصاحبه أبدا تتابع البرامج الكفيلة بالحد من هذا الفقر أو على الأقل التقليل من درجات اتساعه، بل على العكس كان الفقر ينمو نموا مضطردا صاحبه إهمال مبوب بعد العام 2003، حيث تشكلت شريحة اجتماعية صغيرة الحجم استحوذ بعضها على سلطة القرار العام واستحوذ البعض الآخر على بعض المال العام، وان هذه الشريحة تنكرت لماضيها وأصولها مما جعلها عاملا مباشرا لنمو صراع اجتماعي استقطب بقايا الطبقة الوسطى التي تحولت تدريجيا بآمالها وتطلعاتها إلى جانب الفقراء والعاطلين من الشباب ليشكلا نواة لصراع طبقي جديد بدأ سلميا من خلال التظاهرات والاعتصامات.

 وكانت ثورة تشرين النواة التي دارت حولها مطالب كل الفئات الاجتماعية المتضررة، والتي طالبت بالوطن والخبز والكرامة، وما هذه المطالبات إلا مطلبا واحدا إلا وهو تطبيق العدالة الاجتماعية، والعدالة الاجتماعية بمفهومها الحديث، تعني إعادة توزيع الثروة لا وفقا لطريقة توزيع الإعانات على المحتاجين كما يجري حاليا في نظام وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وهي مشكورة عليه، لأنها والحق يقال لم تسبقها الأنظمة السابقة بإجراء كهذا يقلل من آلام الناس بنسب ولو قليلة، لكنه في العموم إجراء مسكن، إنما العدالة الاجتماعية تعني خلق فرص عمل، فالعمل وحده هو الذي يملي القيمة ويخلق المنافع، إنه يمثل القوة الحقيقية في إنتاج الخيرات، وهذا المطلب يتحقق بإعادة تفعيل دور القطاع العام واستخدام إمكانياته الهائلة، بعد تحديث مكننته، والعمل قدر الإمكان على فرض الحماية لمنتجاته، وأنه كما سترون سيعمل على تقليل البطالة وسد الكثير من الحاجات الاجتماعية، ويغادر موقعه كعالة على الخزانة المركزية، وان العدالة الاجتماعية تتجلى بأعلى صورها عندما تقلم رواتب ومخصصات المسؤولين وفق عملية حسابية تأخذ بنظر الاعتبار مستوى التضخم والأسعار السائدة، والقضاء على كل انواع الازدواجية في الرواتب، والانتهاء من ظاهرة الدرجات الفضائية، كما وأن العدالة الاجتماعية تقضي بإعادة النظر في سلم رواتب العاملين في أجهزة الدولة، وتقليل ما هو عال ورفع ما هو واطئ وفقا لمعايير الأهمية النسبية لكل وظيفة بما يضمن مستوى لائقا لمعيشة الموظف ويضمن التساوي في الرواتب وفي كافة الوزارات والهيئات غير المرتبطة بوزارة.

ومن متطلبات العدالة الاجتماعية إعادة النظر بقوانين معالجة شؤون الفقر والتسول والتشرد وشؤون الأرامل والأيتام إضافة الى ما يهم المعوقين بما يضمن حصول فئات اجتماعية كبيرة منهم على استحقاقاتهم من أموال دولتهم، وهذا يتأتى من إحصاء أعدادهم وانشاء مأوى لكل فئة منهم، كما وان إزالة المعوقات من أمام القطاع الخاص سيعمل بالنتيجة على تحقيق الاستخدام الأمثل للأيدي العاملة إضافة الى جعل هذا القطاع من مصادر الأمن الاقتصادي للبلاد، في عالم أخذ بالإنتاج الأوسع والمنافسة الشديدة جراء استخدام الرقمية والذكاء الاصطناعي.

أن تزامن هذه الإجراءات وغيرها مما هو على جدول أعمال الحكومة الحالية بما تحمله من بوادر مبشرة، مع معالجة تغول الفساد والعمل قدر الإمكان على اعادة الأموال المسروقة، أن هذا التزامن سيمول كثيرا من متطلبات إعادة توزيع الثروة، تحقيقا لمبدأ العدالة الاجتماعية التي نحتفل بيومها كل عام وهذه الإجراءات وغيرها ستعمل على تنويع مصادر الدخل وتقليل شر الصدام، والحليم تكفيه إشارة الإبهام.