اخر الاخبار

العلاقة بين الثقافة العراقية والصحافة الشيوعية علاقة عضوية ومتواصلة لا يمكن لها أن تنقطع، كما لا يمكن لأي باحث موضوعي ومنصف أن يدرس مسيرة التاريخ الثقافي العراقي بمعزل عن دراسة تأثير الأفكار الماركسية واليسارية والتقدمية التي كان يبشر بها الحزب الشيوعي العراقي وصحافته على مر المراحل.

ومن العلاقات اللافتة للنظر أن عمليات التثقيف والتربية الحزبية الداخلية التي كانت تمارسها منظمات الحزب المختلفة لتطوير وعي الحزبيين، لم تكن تقتصر على الموضوعات النظرية والآيدلوجية والتعبوية، وانما تركز بدرجة كبيرة على الاطلاع على النتاج الثقافي العراقي والعربي والعالمي. واذكر أني عند انضمامي إلى الحزب الشيوعي العراقي عام 1956، قدمت لي رواية “الأم” لمكسيم غوركي إلى جانب كتاب (البيان الشيوعي) الذي كتبه كارل ماركس. كما أن المنظمات الحزبية في المحافظات كانت تشجع أعضاءها واصدقاءها على مشاهدة بعض العروض المسرحية والسينمائية ومعارض الفن التشكيلي، وكانت تنظم لهم زيارات خاصة إلى بغداد لمشاهدة الفعاليات، مثلما حدث عند عرض مسرحيات فرقة المسرح الحديث التي كان يرأسها الفنان يوسف العاني وتضم نخبة من عمالقة المسرح العراقي مثل الفنان سامي عبد الحميد والفنان ابراهيم جلال والفنانتين زينب وناهدة الرماح. كما ألهم الحزب الأدباء والفنانين للارتفاع بمستوى أعمالهم الفنية ومنحها طابعاً اجتماعياً وانسانياً وحداثياً، فظهر الكثير من الاتجاهات الحداثية في مجالات الشعر الحر والقصة والرواية، كان ممثلوها يرتبطون بالحزب وبسياسته بطريقة أو بأخرى. كما تطورت اتجاهات الحداثة في الرسم والنحت والسينما والمسرح وحتى الشعر الشعبي، عندما منح الشاعر الكبير مظفر النواب القصيدة الشعبية أفقاً جديداً.

ولم تمنع السجون والمنافي، المناضلين الشيوعيين والديمقراطيين من اهتمامهم بالثقافة. ففي سجن نقرة السلمان والحلة وبعقوبة وواسط كانت الانشطة الثقافية متنوعة ومتواصلة تراوح بين الندوات الأدبية والمحاضرات الفكرية والسياسية والعروض المسرحية والترفيهية والتربوية. كما أن المنافي التي اضطر فيها الشيوعيون وأنصارهم إلى اللجوء القسري اليها شهدت هي الأخرى فعاليات وأنشطة ثقافية وفنية متميزة. واليوم إذْ نحتفل معاً بذكرى صدور أول جريدة مركزية للحزب الشيوعي العراقي قبل ست وثمانين سنة ، وتحديداً يوم 31 تموز 1935 أي بعد سنة واحدة من تأسيس الحزب الشيوعي العراقي في الواحد والثلاثين من آذار عام 1934 ، فإنما نستذكر بإجلال واعجاب سيل الصحف الشيوعية والماركسية التي صدرت طيلة هذه الفترة ومنها صحف الشرارة والقاعدة والأساس واتحاد الشعب (1956 )  وطريق الشعب  (1961 ) وئازادي (1944 )  وريكاي كردستان ونهج الانصار وكفاح السجين، والفكر الجديد ورسالة العراق التي كانت تصدر خارج العراق “مناضل الحزب” الداخلية. ومن أبرز المجلات التي أصدرها الحزب الشيوعي مجلة “ الثقافة الجديدة” التي صدرت لأول مرة عام 1953 وكان لكل مطبوع من هذه المطبوعات هويته الفكرية والصحفية الخاصة به، لكنه كان يستلهم الخط الفكري والآيديولوجي للحزب بشكل خاص، والفكر الماركسي بصورة عامة.

ويلاحظ الكثير من الباحثين أن الفكر الماركسي، كان يسبق تشكيل الحزب الشيوعي عام 1934، فقد أصدر المفكر الكبير حسين الرحال صحيفة ذات طابع ماركسي في عشرينات القرن الماضي، كان يحررها عدد من الادباء والصحفيين منهم القاص الرائد محمود أحمد السيد. وطيلة هذه السنوات كانت الصحافة الشيوعية واليسارية والديمقراطية تدافع عن حقوق ومطاليب الطبقات والشرائح الاجتماعية المضطهدة والفقيرة مثل العمال والفلاحين والطلبة والنساء والمثقفين والاطفال. واستطاعت هذه الصحافة أن تمد جذوراً عميقة مع الجماهير الشعبية وشرائح المثقفين والمتعلمين والأكادميين، وتصبح أداة للنضال والتنوير والجمال.

وعلى المستوى الشخصي، كان لي شرف المساهمة في صحافة الحزب في العديد من المراحل. فبعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958، وعندما كنت طالباً في كلية الآداب، عملت في جريدة اتحاد الشعب في ورشة صغيرة تحت اشراف الرفيق بهاء الدين نوري وظيفتها إعادة إعداد وصياغة الرسائل والتقارير التي كانت ترسلها المنظمات الحزبية للجريدة، ومنها تقارير خطيرة عن تحركات وانشطة القوى التي كانت تتآمر على الثورة. كما نشرت في مجلة الثقافة الجديدة دراسة مترجمة عن البورجوازية الوطنية كتبها الرفيق كيا نوري، سكرتير حزب توده في إيران انتقيتها من ملف نشرته مجلة وورلد ماركسست ريفيو والتي ظهرت لاحقاً باللغة العربية في بيروت تحت اسم مجلة الوقت. ومن الجدير بالذكر أن المرحوم سليم عبد الامير حمدان كان قد شاركني في ترجمة ذلك المقال وكان آنذاك زميلاً لي في الكلية.

وعندما عادت جريدة طريق الشعب للصدور في مطلع السبعينات عملت في القسم الثقافي للجريدة والذي ضم آنذاك الشاعر نبيل ياسين والقاص الراحل غانم الدباغ والشاعر حميد الخاقاني الذي كان يقوم بسكرتارية القسم، كما كنا نجد دعماً قوياً من زملائنا الأدباء في بقية الاقسام فضلاً عن البريد الصحفي الذي كان يصلنا من المكاتب الصحفية في المحافظات، والتي عرّفت، ربما لأول مرة بأصوات أدبية احتلت لاحقاً مكانة كبيرة في المشهد الثقافي. وقد كان لي شرف تحرير صفحة (وصلتني رسالتك) التي كانت تتلقى اسئلة القراء واستفساراتهم.

كما واصلت الكتابة لمجلة الثقافة الجديدة وكنت لبعض الوقت عضواً في القسم الثقافي فيها. وقد نشرت بعض الدراسات التي تعبر عن وجهة نظر القسم الثقافي بتكليف من المرحوم شمران الياسري منها دراسة عن الفنان محمود صبري وواقعية الكم.

تظل الصحافة الشيوعية والماركسية والتقدمية مصدر الهام لجميع المثقفين العراقيين التنويريين وانموذجاً مشرفاً للصحافة العراقية الملتزمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مداخلة قدمت في ندوة فكرية نظمتها لجنة الاعلام المركزي للحزب الشيوعي العراقي يوم الثلاثاء 23 تموز 2021.

عرض مقالات: