اخر الاخبار

أثناء محاكمة أنطونيو غرامشي عام 1928 أعلن المدعي العام لحكومة موسوليني الفاشية قائلاً: «يجب أن نوقف هذا العقل عن العمل لمدة عشرين عاماً». غير أن قول التاريخ كان مختلفاً، فقد انتهى هذا المدعي العام ونظامه الفاشي الى مزبلة التاريخ، بينما ظل اسم غرامشي ساطعاً في الفكر وفي الحياة.

وعلى امتداد القرن العشرين وحتى يومنا أضحى غرامشي، على الرغم من مصيره المأساوي، مناراً للمكافحين من أجل عالم جديد. وترك فكره وتجربته الحياتية أثرهما العميق على أجيال من المفكرين والمثقفين والمناضلين. وليس من دون مغزى أن غرامشي هو من بين أكثر المفكرين ترجمة الى اللغات الأخرى وعودة اليه من جانب الباحثين في الفكر السياسي والفلسفة والثقافة، حتى ليمكن القول إنه يقف، في هذا المضمار، الى جانب دانتي وميكيافيللي.

تسعى مقالتنا هذه، وهي تحتفي بغرامشي في عيد ميلاده الـ 130، الى إضاءة: غرامشي .. معاصرنا ! .. وتحاول أن تفعل ذلك من خلال رسم صورة عن سيرته وراهنيته، وتقديم وجيز لأبرز انجازاته: دفاتر السجن، الهيمنة الثقافية، مفهوم المثقف العضوي ...

رضا الظاهر

 يطيب لنا أن نبدأ هذا المقال بالتأكيد على حقيقة أنه كتب الكثير الكثير من الأبحاث والدراسات والأطروحات والكتب التي تضيء تراث غرامشي وموضوعاته. وبوسعنا أن نشير، في هذا الخضم الهائل، على سبيل المثال، الى الكتاب الهام الصادر بالانجليزية في نيسان 2020 عن دار (بريل)، والذي حرره وكتب مقدمته ديفيد كاديدو، ويتضمن مقالات في التاريخ والنظرية والسياسة والثقافة، حيث يطرح باحثون ايطاليون في فكر غرامشي تحليلات عميقة لانجاز هذا المفكر الذي أغنى النظرية الثورية. ويقدم القسم الأول من الكتاب ما يمكن اعتباره إعادة بناء للأحداث المتعلقة بسيرة حياة غرامشي، بينما يقدم القسم الثاني ثلاث وجهات نظر مختلفة توفر تحليلاً لأفكار ونظريات التاريخ التي تتجلى في كتابات غرامشي. وفي القسمين الثالث والرابع نتعرف الموضوعات السياسية الهامة لدى غرامشي. ونجد في القسم الأخير إضاءات لسمات تاريخ ايطاليا في القرن العشرين، وصورة لأسباب تطور المعضلات الاجتماعية الرئيسية التي ترتبط بنتاج غرامشي. 

وأنطونيو غرامشي، مفكر ماركسي بارز،  وأحد أهم قادة ومنظرّي الحركة الثورية الايطالية. ولد في 22 كانون الثاني عام 1891 في جزيرة ساردينيا الايطالية. وتلقى دروسه في كلية الاآداب بجامعة تورينو، وعمل ناقدا مسرحيا عام 1916. وعاش في الثلث الأول من القرن العشرين، وهي فترة مليئة بالأحداث الحاسمة في تاريخ البشرية وانعطافاته. فقد اندلعت فيها ثورة اكتوبر 1917، وتعمقت الأزمة الرأسمالية، واستولت الفاشية على السلطة في ايطاليا وألمانيا ...

في ظل هذه الفترة العاصفة عاش غرامشي مفكراً ومكافحاً ومساهماً بارزاً في الحياة السياسية والفكرية. ساهم في اصدار العديد من الصحف والمجلات. واسهم في تأسيس الحزب الشيوعي الايطالي.

سجن غرامشي في الفترة (1926 – 1937). وفي السجن، وعلى الرغم من الحصار ومعاناته المريرة من المرض، حيث توفي عام 1937 وهو في عمر السادسة والأربعين جراء عدم تلقيه الرعاية الصحية الكافية، كتب (دفاتر السجن) – ترجمت الى العربية باسم (كراسات السجن) أيضاً -  وعلى الرغم من عزلته التي عبر عنها، بشكل خاص، في رسائله الى أمه، وكذلك الى زوجته جوليا وأفراد آخرين من عائلته، كان انتاجه الفكري غزيراً.

ولم يكن غريباً أن تتعرض أفكار غرامشي الى التشويه والتبسيط. وبوسعنا إحالة القاريء الى ما كتبه عن بنيديتو كروتشه (المفكر الايطالي الذي كان له تأثير كبير على غرامشي الشاب)، حيث انتقد نزعة كروتشه الاصلاحية، مشيراً الى أن “النظر الى تطورات التاريخ وكأنها مباراة وفيها حكم، ولها مفاهيمها التي لا يمكن المساس بها، انما هو مفهوم مسبق وجامد للتاريخ .. هذه مسألة إقحام وزرع عضو من خارج العملية التاريخية، عضو غير قادر على الابقاء على نفسه سليما في الداخل”.

وفي سياق إساءة فهم غررامشي اتهمه بعض المفكرين “الماركسيين” بأنه “كان غارقاً في الحتمية الاقتصادية”، في حين أن غرامشي كان يستند، في موضوعاته الاقتصادية، الى تحليلات ماركس بشأن الرأسمالية وأزماتها الاجتماعية، بينما وضع مفكرون آخرون مفهوم “الهيمنة”، على نحو تعسفي، مقابل مفهوم “الصراع الطبقي”.

 كانت الفترة منذ عام 1918 وحتى سجنه عام 1926 سنوات تعلم وتراكم للخبرة. وقد تجلى هذا في كتابات عديدة أبرزها (أطروحات ليون) التي أكد فيها أنه لا يتعين على الحزب الشيوعي أن يتخذ موقف الانتظار السلبي ويكون منعزلاً عن الجماهير، وانما يقود هذه الجماهير في  الكفاح السياسي والاقتصادي والفكري. وتركز (دفاتر السجن) على تطوير ما طرحه لينين في المؤتمرين الثالث والرابع للكومنترن (الأممية الثالثة) عامي 1921 و1922، وهو ما يكشف عن الآصرة الوثيقة بين الكثير من مفاهيم (دفاتر السجن): الهيمنة، الآيديولوجيا، الحزب الثوري، أشكال الكفاح.

ومن مآسي الأقدار أن ينتزع هذا المفكر العظيم من من دفء الحياة ومجرى الكفاح الفكري والسياسي ليلقى به في عزلة السجن وظلامه. ومما له دلالة أنه كتب عام 1928 يقول إن “الكتب والمجلات تتشتمل على مفاهيم عامة ولا تفعل غير رسم مسار عام ..لا توفر للمرء صورة حية ومباشرة وراهنة عن حياة الناس..إن لم يكن بوسعك أن تفهم الناس الحقيقيين فانك ستعجز عن فهم ما هو عام وشامل”.

 دفاتر السجن

ضمت (دفاتر السجن) 33 جزءاً وبلغت حوالي ثلاثة آلاف صفحة. وعلى الرغم من السماح له بالكتابة، فقد غرامشي حرم من الوصول الى الأعمال الماركسية، وأرغم على استعمال الرموز والشفرات ليتفادي رقابة السجن. لهذا يمكن أن نلاحظ “الغموض” والميل الى الطابع “السوسيولوجي” وليس “السياسي”. فقد أطلق على الماركسية اسم (فلسفة الممارسة)، وأشار الى لينين باسم (إيليتش)، وعبر عن الحزب الثوري باسم (الأمير الحديث). غير أن كل هذا لم يحجب وضوح أفكاره.

ومن المعروف أنه تم تهريب (دفاتر السجن) عن طريق تاتيانا، شقيقة زوجته، ونشرت في ايطاليا عام 1948. وبعد أن ترجمت أعماله الى الانجليزية والألمانية والفرنسية خلال سبعينات القرن الماضي بات غرامشي من بين المفكرين الماركسيين ذوي التاثير الهائل. وغالبا ما يجري الاستشهاد بقوله المأثور “تشاؤم الفكر وتفاؤل الارادة”، وتوصيفاته في سنوات الثلاثينات حيث يقول إن “الأزمة تتجلى، على وجه التحديد، في حقيقة أن القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد.. وفي ظل هذا الفراغ يظهر قدر هائل من الأعراض الرهيبة”.

وتطرح (دفاتر السجن) أمامنا سؤالين: الأول، لماذا أخفقت الانتفاضة الثورية في ايطاليا، وانتهت بصعود موسوليني الى السلطة ؟ والثاني، لماذا كانت البرجوازية الايطالية أقل نجاحاً من نظيرتها الفرنسية في توحيد البلاد باتجاه رأسمالي، على الرغم من أنها بدأت عصر النهضة قبل البرجوازية الفرنسية بكثير ؟ يجيب غرامشي على ذلك وهو يتمثل الخبرة التاريخية: عجز القوة الاقتصادية عن تجسيد نفسها في صورة سياسية قادرة على استيعاب سائر المضطهَدين وتوجيه كفاحهم لاسقاط البنية الاقتصادية القديمة.

ويستند غرامشي في تحليل هذا الفشل، من بين مصادر أخرى، الى كتاب لينين (ما العمل): “لا يمكن أن يكون وعي العمال طبقياً إن لم يتعلموا مراقبة كل طبقة من الطبقات الاجتماعية الأخرى في جميع مظاهر حياتها الفكرية والسياسية والأخلاقية، إن لم يتعلموا ان يطبقوا التحليل المادي والتقييم المادي لجميع أوجه نشاط وحياة جميع طبقات السكان وفئاتهم وجماعاتهم. إن كل من يوجه انتباه الطبقة العاملة وقوة ملاحظتها ووعيها الى نفسها فقط، أو الى نفسها بالدرجة الأولى، ليس باشتراكي ديمقراطي، لأن معرفة الطبقة العاملة نفسها مرتبطة ارتباطاً لا ينفصم بمعرفتها الواضحة والتامة للعلاقات المتبادلة بين جميع طبقات المجتمع الراهن، معرفة قائمة على تجربة الحياة السياسية”.

 مفهوم الهيمنة

لعل المسألة الأساسية في (دفاتر السجن) تتعلق بمفهوم (الهيمنة). واذا كان هذا المفهوم قد ارتبط، الى حد كبير، باسم غرامشي (على الأقل في الكتابات التي ظهرت بالعربية) فان هذا المفهوم شكل جزءاً من فكر الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية منذ بداية القرن الماضي. واستخدم مفهوم الهيمنة في أدبيات المؤتمر الثالث للكومنترن بما يعني أن الطبقة العاملة تسعى الى الدور القيادي في كفاح سائر المستغَلين ضد سلطة راس المال.

غير أن غرامشي طور موضوعات الكومنترن مستخدما مفهوم الهيمنة لتوصيف تفوق الطبقة البرجوازية على الطبقة العاملة في ظل النظام الرأسمالي. وكانت المسالة التي حاول غرامشي تحليلها هي طبيعة الثورة في الغرب، حيث كانت البرجوازية هناك أكثر رسوخاً من البرجوازية في روسيا، وأكثر قدرة على فرض هيمنتها الاجتماعية. يقول غرامشي: “في الشرق كانت الدولة كل شيء والمجتمع المدني كان بدائياً وهلامياً، بينما كانت هناك في الغرب علاقة سليمة بين الدولة والمجتمع المدني. وعندما اهتزت الدولة في الغرب ظهرت على الفور بنية المجتمع المدني القوية. لقد كانت الدولة مجرد خندق خارجي يقف خلفة نظام قوي من القلاع والحواجز”.

فكيف نظر غرامشي الى الستراتيجية الثورية التي يحتاجها الغرب ؟ يعتبر غرامشي أن تاكتيك “حرب الحركة”، الذي استخدم في ثورة اكتوبر 1917 في روسيا، غير عملي، وأن التاكتيك الصحيح هو “حرب الموقف”. ويقول إن لينين كان قد توصل الى هذا الاستنتاج، وكان جوابه على هذا السؤال يتمثل في تاكتيك الجبهة الموحدة.

كان غرامشي منشغلاً بسؤال: لماذا لم تتعقب ثورة أكتوبر في روسيا ثورات أخرى في أوروبا الغربية ؟ وقد اكتشف الجواب في استمرار الأفكار الرأسمالية في مؤسسات المجتمع المدني (الأحزاب السياسية، الاتحادات النقابية، الكنائس، ووسائل الاعلام).

وارتباطا بذلك لعل من المفيد الاشارة هنا الى مثال بريطانيا وسياسة اليمين. ففي أواخر سبعينات القرن الماضي حللت مجلة (الماركسية اليوم) Marxism Today عبر موشور الهيمنة صعود الثاتشرية (نسبة الى مارغريت ثاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية حينها). وأدرك محللون أن اليمين الجديد كان لديه مشروع لا للفوز في الانتخابات حسب، وانما، أيضاً، في اعادة تعريف “منهج التفكير”، ولم يكن معظم الزعماء السياسيين يسعون الى تأسيس الهيمنة، وكانت تجربة ثاتشر استثنائية في هذا السياق. وقد قالت ثاتشر في عام 1981 إن “الاقتصاد هو المنهج، والهدف هو تغيير الروح”. وعلى الرغم من أن اليمين قد استفاد، منذئذ، من مفهوم الهيمنة الذي يتسم بالثبات والمرونة، فان أفكار غرامشي كانت ماركسية على نحو لا لبس فيه. وكان محللو الجناح اليميني قد حذروا، منذ زمن بعيد، من أن اليسار يمضي في مسار غرامشي عبر مؤسسات الاعلام والبحث والجامعات، في مسعى للتأثير في عملية التغيير الثقافي.

إن غرامشي يربط قدرة أي طبقة اجتماعية على السيطرة على الحكم بقدرتها على تحقيق هيمنة ثقافية خاصة بها. ويشير الى مفهوم الهيمنة عند لينين الذي ينطوي على وظيفة الحزب في الاستيلاء على السلطة. والى جانب القيادة السياسية التي يستحوذ عليها الحزب، او ما سماه غرامشي “الأمير الحديث”، ينبغي ايجاد قيادة ثقلفية تستطيع تحقيق الاصلاح الثقافي والأخلاقي كما يرى غرامشي.

ويؤكد غرامشي أن تشكل طبقة ما يساوي خلق رؤية شاملة: “إن لم يكن لدى الطبقة العاملة هذا القطاع من المثقفين في حزبها، الذي هو أداة تركيز وتوجيه وصقل هذه الرؤية، لن يكون بمقدورها تطوير ارادة جماعية تمكنها من السير حثيثاً على طريق الثورة. فهدف الثورة خلق دولة، وخلق دولة جديدة يعني خلق مجتمع مدني جديد – الاستيلاء على جهاز قمعي: الهيمنة اذن دولة القوة”.

والفلسفة عند غرامشي هي سعي الى تغيير العالم وفقا لمنظور ماركس. أما العلاقة بين البنى التحتية والبنى الفوقية فليست ميكانيكية ومباشرة. ويقول غرامشي “إن مصنعا ينتقل من السلطة الراسمالية الى سلطة العمل سيستمر في انتاج السلع المادية التي ينتجها اليوم. ولكن بأية طريقة وبأية أشكال ستولد الابداعات الشعرية والدرامية والروايات والموسيقى والتصميم واللغة”.

 المثقف العضوي

طور غرامشي تحليله الخاص بدور المثقفين على أساس سوسيولوجي، حيث يعرف المثقف بوظيفته ودوره بالنسبة للطبقة الاجتماعية، وهو ما أطلق عليه توصيف (المثقف العضوي). وقدم تعريفاً آخر يستند الى النظرة التاريخية ويتعلق بتحديد المثقفين على أساس المكانة التي يشغلونها داخل السيرورة التاريخية.

ويرفض غرامشي التقسيم المألوف للمجتمع: شغيلة اليد وشغيلة الفكر. ويرى أن “كل عمل يدوي أو عضلي حتى لو كان ميكانيكياً يتطلب قدراً من المهارة، أي حداً أدنى من النشاط الفكري... وكل انسان يمارس نوعاً من النشاط الثقافي، أي أنه فيلسوف فنان، إنسان متذوق، يشارك في تصور ما عن العالم، أي أنه يبتدع سبلاً جديدة في التفكير”.

وتتجلى وظيفة المثقف العضوي، كما يراها غرامشي، في تحقيق تصور للعالم خاص بالفئة أو الطبقة التي يرتبط بها عضوياً، وجعل هذا التصور مطابقاً للوظيفة الموضوعية لتلك الطبقة في وضع تاريخي معين. كما تكمن وظيفته أيضاً في الجانب النقدي من نشاطه الفكري الذي يحرر الآيديولوجيات من الأفكار السابقة لظهورها.

ويرى غرامشي أن المثقف العضوي ليس انعكاساً للطبقة الاجتماعية، وانما يتمتع باستقلال نسبي ينبثق من المنظمات التي يعمل فيها، وهي، بالطبع، منظمات مرتبطة بالطبقات الاجتماعية.

ومقابل المثقف العضوي الذي يمنح الطبقة الاجتماعية التي ينتمي اليها التجانس الفكري، نرى المثقف التقليدي، الذي ينتمي الى طبقة اجتماعية زائلة أو في سبيلها الى الزوال.

ويؤكد غرامشي أن قدرة أي طبقة اجتماعية على الصعود وتحقيق الهيمنة على المجتمع تكمن في قدرتها على تكوين مثقفين عضويين مرتبطين بها، وكذلك في قدرتها على استيعاب المثقفين التقليديين.

عرض مقالات: