اخر الاخبار

يعكف منظرّو الحركة العمالية والنقابات في الولايات المتحدة،  على دراسة التغيرات البنيوية الجارية في هيكل الطبقة العاملة (القوى العاملة بشقيها العضلي والفكري) في الثلاثين سنة الأخيرة مع دخول التكنولوجيا الحديثة إلى حيّز العملية الإنتاجية وتوسّعها الكبير، وما نتج عنها بالاستغناء عن أعداد كبيرة من العمال الذين كانوا القوّة الأساسيّة في العملية الأنتاجية، لتحل محلّها الماكنة الحديثة او الحواسيب وصولا للإنسان الآلي، لابل يجري الحديث اليوم ايضا عن دخول (الذكاء الأصطناعي) اليها أي العملية الأنتاجية في القريب العاجل.

هذا الأمر بحاجة إلى نظرة تأمليّة مسؤولة، إن كان في الآثار السلبية التي سيتركها على مصير الأعداد الكبيرة من القوى العاملة التي سترى نفسها عاطلة عن العمل ومرميّة هي وعوائلها على قارعة الطريق، أو في لوحة القوى المسؤولة عن العملية الأنتاجية وتأثيراتها الاجتماعية الكبيرة من جهة، ودورها في تركيز الأرباح في يد الشركات المنتجة. هذا الجانب المهم يجري اليوم تقديم الكثير من الدراسات حوله، وتُعقد من أجله العديد من الندوات وحلقات النقاش، لكن هناك أمراً مهما وعلى صلة بالموضوع وهو ضرورة التحضير والتخطيط له بعناية.   فإذا أسلمنا بأن ادخال التكنولوجيا الحديثة إلى العملية الانتاجية سيركز على زيادة أرباح الشركات، فالسؤال هو عن مدى تأثير ذلك الأنسان العامل. هنا تكمن أهمية الدراسات وامتلاك النظرة المستقبلية والتخطيط المسبق لها، الآن وليس غدا!

السؤال الذي بحاجة للجواب اليوم هو: من هي القوى المتضررة من حلول المكننة محل الجزء الأكبر من شغيلة اليد، وماذا عن شغيلة الفكر المرتبطين بالعملية الانتاجية، وأقصد بذلك التقنيين العاملين في إدارة أنظمة الحواسيب في حالة إدخال (الذكاء الاصطناعي) إلى العملية الانتاجية؟

إذا افترضنا أنّ النقابات العمّالية هي الإطار السليم للدفاع عن مصالح الطبقة العاملة (المتحققة  أو التي تفرضها الظروف الجديدة) فإن الصورة لا تبدو وردية في سوق العمل الأمريكية، إذ ان أكثر الأرقام تفاؤلاً  تشير إلى ١٠.٥٪ من القوى العاملة  منضوية للنقابات العمالية الآن (حسب احصائيات العام ٢٠٢٢)، وهذا يعني أن هناك حوالي ٩٠ ٪  من العمّال غير منضمّين لنقابات عمّاليّة، وهذه النسبة العالية من العمّال غير المنضمّين للنقابات لها أسبابها التأريخية ومنها، عمليات الألتفاف التي قامت بها الشركات نتيجة الوفرة الزائدة في سوق العمل مما دفعها لوضع شروط عدم إمكانية التنظيم النقابي في حالة التوظيف الجديد، او سَن قوانين التزمتها الكثير من الولايات في منح حرية الاختيار للعمال الجدد في الأنضمام للتنظيمات النقابية النقابي من عدمه مع منحهم بعض المغريات، ناهيك عن التراجع الذي اصاب التنظيم النقابي نتيجة فساد بعض القادة النقابيين وتقاعسهم في الدفاع عن حقوق العمل المستلبة،  وتضاف اليها عوامل مهمّة مثل نتائج الركود الاقتصادي  وإرتفاع نسب البطالة وحاجة العمال للعمل اكثر من حاجتهم للتنظيم النقابي. هذا من جهة ومن الجهة الثانية هو التأثير الكبير الذي تركته عملية إدخال المكننة ونظام الحواسيب إلى العملية الإنتاجية التي كانت نتيجته الاستغناء عن أعداد كبيرة من العمال الذين أضطروا لاحقا للبحث عن فرص عمل أخرى غير المصانع والمعامل ولجوء الكثير منهم إلى القطاع الخدمي. ولطالما كان الحديث عن القطاع الخدمي فالصورة تبدو اكثر أهمية لدراستها بعمق والخروج منها بنتائج ملموسة، فبعض الاحصائيات في  العام ٢٠٢٢ تشير إلى وجود ثلاثة  تجمعات للشغيلة الخدمية لا تتوافر لها الأطر التنظيمية النقابية، وإن وجدت فهي صغيرة جدا وغير مؤثرة ومحلية في توزعها الجغرافي،  وهنّ: شركة آمازون ( ٢.٢ مليون مستخدم)، شركة وول مارت ( ١.٦ مليون مستخدم)، قطاع مطاعم الوجبات السريعة ( ٣.٦ مليون مستخدم )، كل هذه الاعداد تمثل رصيدا هائلاً للحركة العمالية والتنظيم النقابي لو تمكنّت النقابات العمّالية من إيجاد الأطر الصحيحة والشعارات السليمة لاستقطابهم حتى لو اقتضى الأمر بهم للوصول إلى المحاكم.

هناك قوّة إزداد عددها وتراكمت خبراتها في السنوات الثلاثين الماضية، الا وهي قطّاع التقنية والعاملين في أنظمة الحواسيب على مختلف مستوياتهم (المشغلّين او المبرمجين)، هذا القطّاع عاش فترة تمتّع فيها بمزايا الدفع المجزي والسباق في التوظيف، لدرجة وصلت بالشركات الامريكية إلى تقديم المغريات للكفاءات من خارج الولايات المتحدة بمنحهم فرص الإقامة الدائمة في البلاد. نعم، هذا القطاع توسّع وليس من الممكن الاستغناء عن خدماته كاملة، لكن وبسبب طبيعة النظام الرأسمالي وأعتماده على مبدأ الربح الفاحش، دفع بالشركات للاعتماد أكثر وأكثر على المكننة وإدخال نظام الحواسيب والأنسان الآلي إلى العملية الانتاجية، وهذا الأمروضع هؤلاء التقنيين مؤخرا تحت وطأة نظام العرض والطلب، فكانت النتيجة ان تعرض الكثير من هؤلاء التقنيين للتسريح او الاستغناء عن خدماتهم ما دفع الكثير منهم للبحث عن فرص عمل حتى خارج نطاق اختصاصاتهم، وبالتالي أضيفوا إلى سوق البطالة المتضخّم اصلا.  وهذه البطالة لا تعني البطالة بمعناها الضيق بل بمعناها الأوسع، فهناك فرق كبير بين ان تعمل استشاريا تقنيا براتب يصل احيانا إلى ١٠٠ ـ ١٥٠ دولار في الساعة، مقابل العمل في احدى ىشركات الخدمات او في خدمة الاوبر مقابل ١٥ ـ ٢٥ دولار في الساعة.

هذا الفصيل مهم جدا ومن الممكن ان يكون قوة إحتياط للطبقة العاملة لو أُحسن تنظيمه وأيجاد الأطر الصحيحة لمخاطبته عن طريق رفع وطرح الشعارات التي تتناسب وحاجاته اليومية. أنّ الطبقة العاملة في الألفيّة الثالثة لم تعد تلك الطبقة

التي تبيع قوّة عملها المجرّدة مقابل الأجر فقط، بل يُمكن أن تضمّ كلّ من يُساهم بالعملية الانتاجية من ألفها إلى يائها، وهذا الأمر بتصوري لا ينطبق على الولايات المتحدة فقط، بل يشمل كل الدول الصناعية التي مرت او ستمر بالمراحل التي مرت وتمر بها العملية الإنتاجية والاقتصاد الأمريكي على ما أظن.

عرض مقالات: