اخر الاخبار

ألقى الشاعر والمسرحي الشيوعي الألماني برتولد بريخت الخطاب التالي أمام المؤتمر الثاني لـ«كتّاب من أجل الدفاع عن الثقافة» عام 1937 في فترة النضال ضدّ الفاشية:

ضدّ الموجة الفاشية

منذ أربع سنوات، وقعت في بلدي سلسلة مريعة من الأحداث، أسفرت عن دخول جميع جوانب الثقافة في منطقة الخطر المميت. فلقد أثار الانقلاب الفاشيّ احتجاجات فوريّة وحماسية في أجزاء واسعة من العالم.

أثار عنف الفاشيّة سخطاً شديداً، ولكنّ المغزى العام لهذا السّخط بقي غامضاً حتى بالنسبة لأولئك الساخطين بعمق. وبينما أدرك الناس أهمّية كلّ واقعةٍ على نحو منعزل، غير أنهم لم يدركوا التأثير الأساسي لها جميعاً على مسألة «أن تكون» الثقافة «أو لا تكون».

إنّ الأحداث الوحشية في إسبانيا؛ قصف القرى والمدن المفتوحة وارتكاب المجازر بمجموعات سكّانية بأكملها، لم تؤدِّ سوى إلى مزيدٍ من تفتيح عيون البشر على معنى أحداثٍ لا تقلّ فظاعةً عن الأولى رغم كونها أقلّ دراميّة – والتي وقعت في بلدان مثل بلدي التي كانت تحت نفوذ الفاشية.

لقد سلّطت الأحداث الضوء على الأصل نفسه الذي أدى إلى تدمير «غرنيكا» ومباني نقابات العمّال الألمان في أيار 1933. [غرنيكا في إقليم الباسك الإسباني، قصفتها الطائرات الحربية الفاشية الألمانية والإيطالية مساندةً لقوات القوميين المتطرّفين الإسبان في 26 نيسان 1937 لترويع الشعوب خلال الحرب الأهلية الإسبانية، وخلّدها الفنان بابلو بيكاسو في لوحة جدارية].

إنّ صرخة أولئك الذين تمّ اغتيالهم في الساحات العامة تعزّز صرخة المُعذَّبين في غياهب سجون الغيستابو [البوليس السرّي]. الديكتاتوريّون الفاشيّون يصدّرون الآن إلى بروليتاريا البلدان الأخرى أساليب القمع نفسها التي طبّقوها لأوّل مرّة ضد العمّال داخل بلدانهم، فيفعلون بالإسبان مثلما فعلوا بالألمان والإيطاليين. وبينما يبني الفاشيون مراكز لطائراتهم، تُحرَم شعوبهم من الزبدة، وتُقصَف الشعوب الأجنبية بالقنابل. وحالما تنهض النقابات من أجل الزبدة وضدّ القنابل، يتم قمعها.

فهل من أحدٍ يشكّ الآن بأنّ المسألة تكمن في هذا النظام الواحد نفسه المنخرط في تبادل القوى العسكرية والتطوير المهول للإتجار بالكادحين، بينما يتم إجبار كتائبهم المدنية على بذل عملهم في خدمة رأس المال؟

بمجرّد أنْ أثبت الهجوم العام على المواقع الاقتصادية والسياسية للعمال الألمان والإيطاليين فعاليته، وحالما تمّت مصادرة حرّية تنظيم النقابات وحرّية الصحافة، وقمع الديمقراطية، فإنّ الهجوم على الثقافة تكلّل بالنجاح.

لم ندرك بما يكفي من السرعة أو المباشرة، بأنّ تدمير النقابات وتدمير الكاتيدرائيات، وغيرها من صروح الثقافة، كان يعني الشيء نفسه. ولكن في ذلك بالذات كان الهجوم على الثقافة.

فعندما خسر الشعبان الألماني والإيطالي مواقعهما السياسية والاقتصادية، خسرا جميع وسائل الإنتاج الثقافي. وحتى السيّد غوبلز نفسه [وزير الدعاية النازي] بات يتثاءب من الضَّجر في مسارِحِه.

الشعب الإسباني وهو يذود بالسلاح عن أرضه وديمقراطيته، إنما يكتسب ويحمي إنتاجيّته الثقافية، ومع كلّ هكتار من الأرض التي يحميها، يحمي سنتيمتراً مربّعاً من لوحات البرادو [المتحف الوطني في مدريد].

ما العمل للدفاع عن الثقافة؟

لمّا كانت الثقافة على هذه الدرجة من الارتباط الوثيق بالإنتاج الجماعي للشعب، والارتباط الوثيق بالقوة المادّية، وإذا كانت موجة العنف تسلب من الناس الخبز والسونيتّات في آنٍ معاً، وإذا كانت الثقافة شيئاً مادّياً إلى هذه الدرجة حقاً، فما العمل للدفاع عنها؟

ما الذي تستطيع الثقافة أن تضطلع به بنفسها؟ أيمكنها أن تقاتل؟ حسناً، الآن إنها تقاتل. وهي تستطيع ذلك. فالصِّراع يتكوّن من أطوارٍ عديدة؛ في البداية يلجأ منتجو ثقافةٍ منعزلون إلى النأي بأنفسهم بعيداً عن الأحداث الفظيعة في البلد.

ولكنّ البربرية التي تواجههم، وبحكم تعريفها بالذات، تفرض الحاجة إلى القتال. ومن ثمّ يتوحّدون ضدّ البربرية كما يتطلّب الصراع. وينتقلون من الاحتجاج إلى المطالبة، ومن الشكوى إلى صرخة الكفاح.

ولا يقنعون أنفسهم بمجرّد الإشارة إلى الجريمة؛ فيسمّون المجرمين بأسمائهم ويطالبون بمعاقبتهم. إنهم يدركون بأنّ كراهية الظلم لا بدّ وأن تؤدي إلى سحق الظالمين، بأنّ الرحمة بالضحايا يجب أن تلغي أية رحمة تجاه الجلّادين، بأن التعاطف يجب أن يتحوّل إلى غضب، ويصبح الخوف من العنف نفسه عنفاً؛ الاكتمال العنيف للقوة الشعبية يجب أن يقف ضدّ عنف الطبقة المنعزلة التي تحتكر الامتيازات لنفسها.

فهذه الحروب لن تنتهي أبداً؛ فلم تكد تبرد محرّكات أسراب الطائرات التي هاجمت بالأمس الحبشة التعيسة، حتى عادت للتحليق مع شركائها الألمان لتنزل معاً على رؤوس الشعب الإسباني. المعركة لم تنته بعد وهناك بالفعل أسراب طائرات للإمبريالية اليابانية تشن غارات فوق الصين...

إنّ الثقافة - التي لطالما كانت، وإلى سنين طوال، لا تملك من سلاحٍ سوى العقل لتدافع به ضد أسلحة المعتدين المادّية - هذه الثقافة هي نفسها ليست نابعةً فقط من الروح، بل إنها كذلك، وقبل كلّ شيء، مادّية، وبأسلحةٍ مادّية يجب الدفاع عنها.

بريخت - سيرة موجزة

ولد بريخت في 10 شباط 1898 في أوغسبورغ في بافاريا، بالقرب من ميونيخ، وتوفي في برلين الشرقية في 14 آب 1956. درس الطب في جامعة ميونيخ 1917-1921، وفي تلك الفترة كانت ميونيخ مدينة ثورية، وهي جزء من ثورة نوفمبر الألمانية 1918-1919.

في أواخر العشرينات من عمره، أصبح بريخت ماركسياً متحمّساً. وفي تلك الأوقات الثورية بدا من الطبيعي بالنسبة له أن يطبّق الأفكار الماركسية على عمله المسرحي.

تناول بريخت في أعماله بعد الحرب العالمية الأولى: الثقافة الأوروبية والبرجوازية الألمانية والحرب، وقبل كل شيء، كان الجزء الأفضل من ذلك الجيل الذي كان يهدف إلى هزيمة الرأسمالية في نهاية المطاف.

كانت ميونيخ أيضاً مسقط رأس الحركة النازية بقيادة أدولف هتلر وأنصاره. وفي تلك الفترة انفجرت الفنون في ميونيخ على نطاق واسع، حيث كان الجميع يرسم أو يكتب أو يؤلف، وظهرت أسماء مشهورة في المدينة. في هذه الظروف بالضبط، نضجت الأفكار السياسية والمسرحية لبرتولد بريخت الذي عَرّف العالم على: أوبرا القروش الثلاثة، ودائرة الطباشير القوقازية، وإلى ثلاثين مجلداً من أعماله، وإلى هدفه النهائي: تعليم الشعب الأفكار الاشتراكية.

أثارت عروضه المسرحية الأوبرالية ضجة كبيرة في ألمانيا سنوات 1930-1931، وبدأت الحملات النازية ضده، وفي عام 1933 بعد استيلاء هتلر على السلطة في ألمانيا، هرب إلى الدانمارك.

ثم هرب عام 1941 من الدانمارك إلى سانتا مونيكا في كاليفورنيا بسبب الاحتلال الألماني، وهناك قابل العديد من المهاجرين الألمان الذين فروا من مطاردة النازية، التي بدأت تمارس القهر والاغتيالات ضد المعارضين، وتحرق كتب الأدباء الذين لا ترضى عنهم. وكانت كتب بريخت من الكتب التي أحرقت. في الولايات المتحدة الأمريكية، لم يكن بريخت راضياً عن الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية. وفي عام 1947 حوكم برتولد بريخت في واشنطن، بسبب قيامه بـ «تصرفات غير أمريكية»، وهي التهمة التي كانت تطارد الفنانين والسينمائيين والكتاب الأمريكيين بحجة مكافحة الشيوعية.عاد بريخت إلى ألمانيا عام 1948، ولكن لم يسمح له بدخول ألمانيا الغربية، فذهب إلى ألمانيا الشرقية، حيث تولى هناك في برلين الشرقية إدارة المسرح الألماني. ثم أسس في عام 1949 فرقة برلين. وتولى عام 1953 رئاسة نادي القلم الألماني. وحصل عام 1954 على جائزة ستالين للسلام، وعمل في المسرح حتى وفاته سنة 1956.

ـــــــــــــــــــ

“قاسيون” – 1 ايار 2023

عرض مقالات: