اخر الاخبار

بكلمات عميقة المعنى افتتح شاكر مصطفى سليم كتابه: الجبايش (دراسة أنثروبولوجية لقرية في أهوار العراق). وهي الأطروحة التي قدمها المؤلف لجامعة لندن ونال درجة الدكتوراه في الفلسفة عام 1955. حيث قال: في العراق اليوم حاجة ملحة للقيام بدراسات اجتماعية من بين العدد الكبير من المجتمعات والشعوب المتأخرة التي يزخر بها القطر. وهذه الحاجة الماسة ليس لتسهيل مهمة السلطات المسؤولة عن مستوى المعيشة لتلك المجتمعات وتحسين أحوالها الاجتماعية والاقتصادية فحسب، بل لتوجيه المثقفين في البلد إلى تلك المجتمعات والشعوب التي تكون الغالبية من سكان العراق. فأكثر المثقفين يجهلون الشيء الكثير عن نظم وحياة المجتمعات المتأخرة في العراق بل وبعضهم يجهل أبسط الحقائق في هذا الصدد.. لقد تضمنت هذه الدعوة الآتي:

1.دعوة المثقفين الى تحمل مسؤولية البحث والكتابة عن قضايا المجتمع فهي دعوة نلتمس من خلالها ادوار المثقفين في تبوء الصدارة في مجتمعاتهم على الرغم من ادراكه ان دور المثقف في بلده يتحدد تبعاً للظروف السياسية، والإقتصادية، والإجتماعية في كل بلد كما  يؤدي الارث الحضاري والثقافي الدور الأكبر في تحديد المدى الذي يتحرك المثقف خلاله .

2.الحاجة الماسة لدراسة مستوى المعيشة للمجتمعات المحلية وان لاتقتصر هذه الدراسات على تحجيم أطرها ضمن توجيهات السلطة السياسية وأنما تكون الغايات العليا والنبيلة في تحسين أحوالها الإجتماعية ولإقتصادية .

3.جعل المثقف أمام مسؤولية تأريخية  كبيرة في قوله :آن الوقت أن يحظى الريف والهور وسكانها في العراق باهتمام المثقفين عامة وقادة الفكر بصورة خاصة . فدون هذا الأهتمام لن تستطيع الحكومة وحدها ، مهما صدقت نيتها ومجهوداتها ، ان تقوم بالاعباء الضخمة التي يستلزمها الأصلاح المنشود.

نحن أمام دراسة (أنثروبولوجية) رصينة طرق المؤلف بابا للبحث يحتل هو الصدارة فيه. فهو يتنقل بنا بين واقع عايشه لمدة دراسته التخصصية لأكثر من سنة ليقدم لنا محاور دراسية للبيئة الجغرافية والسكان والعادات والتقاليد والموارد الاقتصادية والكيان الاقتصادي والاجتماعي بصورة مفصلة ورصينة لعالم الأهوار ضمن منطقة تخصصية هي الجبايش. فعلى الرغم من تناول الرحالة الأجانب عالم الأهوارمثل (فلانين هدجكوك وزوجته: الحاج ركان ... عرب الأهوار)، و(يلفر ثيسكر : المعدان عرب الأهوار) وغيرها من الدراسات ولكن تبقى دراسة شاكر مصطفى سليم دراسة رائدة في علم (الأنثروبولوجية) بجداول ومخططات قيمة رصد بها المظاهر الاجتماعية والاقتصادية والحياة العامة لتحويلها إلى لغة أرقام تختصر على القارئ الكثير من الوقت مع متعة القراءة لعقل عراقي رصد هجرات العمل الموسمية والموارد الاقتصادية الثانوية بعين البحث العلمي فضلا عن علاقة السلطة المركزية بـ(الجبايش).

أما محاضرات الدكتور شاكر مصطفى سليم في (الأنثروبولوجي) بوصفه أستاذا لهذا العلم في كلية الآداب/ جامعة بغداد فقد تنوعت بين (علم الأنثروبولوجي: تأريخه ومدارسه) و (العنصر والتمييز العنصري) و (الحضارة: مفهومها ومكوناتها). يفند فيها النظريات التي تذهب بوجود فوارق بين البشر فهو يقول: أما ادعاء وجود نفسيات خاصة بالعناصر فلا يوجد دليل علمي عليه. فمن الممكن تفسير كل الاختلافات في سايكولوجيا الجماعات أو العناصر، أن وجدت، على أسس حضارية. فكل مجتمع يقر طرازات نفسية معينة وينكر أخرى طبقا لتقاليده ونظمه. فلا يوجد تفاضل موروث بين العناصر لا طبيعيا ولا عقليا ولا نفسيا. فهو يرفض التمييز العنصري الذي يفرضه الرجل الأوروبي (الأبيض) على العناصر السوداء وغير السوداء من الشعوب المتأخرة التي حكمها. فكلنا يعرف الامتهان والاضطهاد بل التقتيل الذي يتعرض له الزنوج في الولايات المتحدة الأمريكية (وعلى وفق ما ذكره د. شاكر مصطفى سليم) في محاضراته. فدراسته تركزعلى (علم الإنسان من حيث هو كائنٌ إجتماعي) .

فنحن إذن أمام شخصية طرقت العلوم الاجتماعية من أبواب العلم الرصين بالتجربة والمعلومة العلمية (البحتة)، فهل يمكن للسلوك العلمي للشخصية أن يتغير في ضوء متغيرات سياسية؟

بعد ثورة 14 تموز 1958 وظهور الصراع بين القوى السياسية المختلفة، مما أدى إلى بروز الصراعات الشخصية والعقائدية بين القيادات العسكرية من جهة، والشخصيات المدنية السياسية المثقفة من جهة أخرى. فقد فسحت بعض القوى المشاركة في التغيير للقوى الخارجية في التدخل في الشأن العراقي الخاص تحت (شعارات) قومية، مبتعدة عن تقدير أوضاع العراق الداخلية، مما أدى إلى ازدياد حدة الصراعات الشخصية التي انعكست في الشارع العراقي بصورة أوضح، فالصراع كان بين ما هو (وطني من مختلف القوى السياسية والمثقفة) التي ترجح الاهتمام بمشكلات المجتمع العراقي المختلفة، وبين ما هو (قومي من مختلف القوى السياسية والمثقفة) التي ترجح الاهتمام بالقضايا القومية (العربية) على حساب القضايا الوطنية. لقد تمثل هذا الصراع بشكل واضح جدا بعد الثورة. ويعد (د. شاكر مصطفى سليم) أنموذجا للمثقفين الذين حملوا التناقض (الوطني – القومي)، فأخذ يكتب سلسلة مقالات في جريدة (الحرية) للسنوات (1958-1963) ويطبعها فيما بعد في كتب تحت عناوين استفزازية وسلبية، وهي (الإعصار الأحمر، ومن مذكرات قومي متآمر، ونضال وحبال).

يتعذر للأسف أقتباس عبارات يمكن أن تعطينا (أفكاراً) عن الغاية من كتابة هذه الموضوعات من قبل عالم علم الانثروبولوجيا (علم الأنسان الإجتماعي) التي لايمكن ان يتصور أنسان أن هذه العبارات المسيئة في هذه الكتب يمكن ان تقود الى تحليل ودراسة مرحلة مهمة في تاريخ العراق ونحن نتعامل مع أستاذ الأنثروبولوجي الذي ابتعد عن إختصاصه بتأثيرات الوضع السياسي العام يمكن أن نستخلص النقاط الآتية مما مر معنا:

  1. تضمنت المقالات النيل من الشخصيات المثقفة والوضع العام بأسلوب تهكمي وبمعلومات تفتقر إلى العلمية، فكان بالإمكان توظيف الخبرة العلمية التي يتمتع بها ليس من أجل (دولة- السلطة)، وإنما في دراسات اجتماعية غنية عن أبعاد مفهوم (الوطن والثورة) ضمن إختصاصات، بدراسات نقدية تشكل إضافة إلى المكتبة العراقية لا تقل أهمية عن كتاب (تأملات في الثورة الفرنسية/ أدموند بيرك).
  2. تناولت موضوعات المقالات الجمع بين التهكم والسخرية والتعصب؛ للنيل من عدة شخصيات وطنية بارزة.
  3. لم تقدم المقالات دراسات موضوعية تشمل الثورة أو رجالاتها من خلال (الانحدار الطبقي أو المستوى التعليمي) ضمن الاختصاص العلمي في المجال (الاجتماعي) أو دراسة التغيرات الاجتماعية التي صاحبت الثورة. فهو وكما يذكر الدكتور معن خليل عمر في كتابه (رواد علم الاجتماع في العراق) أن الدكتور شاكر مصطفى سليم يعد باحثا ناقدا، وان مارس النقد الاجتماعي لأحداث سياسية متصارعة فتعرض لمشاكل سياسية ومهنية. وكان تطرقه للصراع السياسي افتقد إلى التحليل ولم يكن منطلقا من زاوية منطقية. كما أنه لم يشر إلى أبعاد الصراع وإيجابياته وسلبياته، ولم تكن نظرته شاملة بل تجزيئية وسردية، ودون الولوج إلى حيثيات الحدث وآثاره وتبعاته الاجتماعية.
  4. أن سيادة العامل السياسي في الحياة الإجتماعية العامة في المجتمع العراقي ادى الى آثار كبيرة في مجال البحث العلمي ، مما ادى الى حرمان المكتبة العراقية من موضوعات مهمة لدراسة الجوانب المختلفة لصور الحياة المجتمعية ولاسيما مع إختصاصات العلوم الأنسانية المهمة.
عرض مقالات: