اخر الاخبار

تتجسد المغايرة في مجموعة (في رثاء من اتسعت رؤياه وضاقت عبارته) للشاعر علي عيدان عبد الله الصادرة عن (دار المؤلف، بيروت، 2023) في استلهام الاختزال وتأسيس نص يمزج بين الشعرية والنزعة الذهنية الصوفية، ويمكن القول إنّ الشاعر يقدّم تجربة لها خصوصيتها واشتغالاتها وعمقها ويسعى لصياغة أفكاره وتجلّياته واستبصاراته على شكل (هايكو ذهني) يوظف كثيراً من المعطيات التعبيرية وصولاً إلى ومضة مكتنزة فيها كثير من الإثارة والإحالة، وتتميز المجموعة بخلق تنويعات لتعميق الخطاب الجمالي المرتكز على استعارة الرؤية الشعرية، والخروج بها إلى انزياحات فكرية وفلسفية وصوفية مما يجعلها تقترب من روح المقولة، والنص القصير المكثّف والدال والمختزل لغوياً. ووفقاً لسيميائية العنوان وبنيته الإحالية فإننا نكتشف مديات الارتكاز على ثنائية (الرؤية والعبارة) المتناصّة مع التصوّف، أو الصياغة اللّسانية والمحمول الذهني مما يجعل هذه النصوص تمتلك دلالات متعددة ومتباينة يصعب تصنيفها على مستوى التجنيس والشكل التعبيري، فهي تنتمي إلى عدة مستويات وفضاءات وتحاول المقاربة بين ما هو شعري وغير شعري ممّا يقودها إلى تمثّل نوع من التمرّد على الأشكال المعهودة والأداءات السائدة نحو نصوص (علي عيدان) إلى تأسيس رؤية صوفية – بمعنى التوّغل – في أكثر من بعد بدلالة العنوان الذي يشكل تناصّاً واستعارة لمقولة المتصوف (العرفاني) الشهير عبد الجبار النفّري ومقولته المركزية «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة» وهذا التناص في العنوان إشارة إلى الجدل التعبيري القائم بين الرؤية وكيفية التعبير عن مكنونها بما يناسب المدى الإتساعي لكلّ منهما، وما يجعل هذه المقارنة التعالقية تنفتح على ثنائية تمثيلية ترتبط بعلاقة الصورة والفكر، أو اللغة ومعطيات التعبير. ومن هنا يمكن تلمّس الاشتغال المغاير الذي يسعى إليه الشاعر في استثمار البنية اللّغوية لصياغة بنية رؤيوية وما يتخلل ذلك من تمثّل واستلهام واستبصار وانزياحات على مستوى الدلالة والمعنى، ومما يجعل النصوص تقترب من نسق المقولة الموجزة، ومن توظيف لاختزال الفكرة على شكل نص يرتكز على ألفاظ قليلة ومضاهاة معانٍ وجودية وفلسفية وصوفية تتشكّل على نمط من اسلوب (الضربة) الفنية، واستثمار بنية التجاور والصورة الكنائية للإشارة إلى المعنى البعيد بعد تقديم المعنى القريب والمتداول ولذا نجد الاعتماد على الكناية وانزياحاتها حاضراً في كثير من النصوص التي احتوتها المجموعة. نلحظ أنّ الشاعر يمنح نصوصه قدراً من الجذب والاستقطاب سعى إلى خلق تنويعات وظواهر تعمّق الأداء الجمالي والتوّجه الفكري، وفي العتبة التي استهل بها المجموعة إحالة إلى استعارة لنصوص ومقولات النفري التي حاول أن يتناص معها ويستوحي معطياتها واشتغالاتها إذ يقترب من المعطى الصوفي في كثير من النصوص منها نصّه (ذوي الضغينة) وبغض النظر عن (ذوي) وليس (ذوو) الذي أراد منه التخصيص: أجلسُ بحذر / حين أعكف على الكتابة وإن / لم اكتب.. الكلّ يبحث عن (المعنى) ولكن الجاهز – المسبق – المتشابه وليس/ المعنى الباحث عن معناه / بالفعل.. (المجموعة: 15- 16). وتتوافر النصوص على تكوين الصورة الشعريّة الدالة التي تنطوي على معنى أكثر عمقاً ودلالة عبر الانزياح الصوري الكنائي والاستعاري كما في نص (كل ما هو تحت الجلد): إذا اردت أن تحصّن الجمال فأجلسه على ركبتيك كما أجلس موسى سيناء على ركبتيه.. يتجلى الانزياح على مستوى الصورة من خلال وجود المعنى أو الصورة الأولى ثم خلق الانحراف أو الخرق النسقي وإيجاد المعنى أو الصورة الأخرى المراد توصيلها، وهذا النمط من التأسيس الدلالي ذي البعدين أو المستويين يتكرر في نصوص المجموعة مما يجعل الاشتغال الكنائي المعضد بالصور الاستعارية هو (المرتكز) لتوحيد معان مؤثرة تقوم على انقاض المعاني الأولى المباشرة، ففي المعنى أو الصورة الأولى الاستعارية يتحدث عن إرادة الحفاظ أو كيفية (تحصّن الجمال) ويذهب بعدها وفق انزياح (تجاوري) لخلق صورة كنائية مؤثرة حين أجلس موسى سيناء على ركبتيه!!، ووفق هذا التأسيس والإشارة الصورية يفلسف الشاعر نصوصه ويضفي عليها هذه المعطيات التي تتشكّل لتنتج صورة ذهنية وإحالة إلى المعنى الأكثر إثارة وتأثيرا. ونجد مثلاً لتناول المعنى الثنائي في نص (الحرية هي المآل) (المقطع الرابع): الشهيق والزفير /   طريقتا اختزال المصير يتطاول على عقبيه   /  ولكنّه  /  لا يجرؤ على البوح... (المجموعة: 24). يجسّد الشاعر صورة عميقة الدلالة عن ثنائية الشهيق والزفير ويصوّرهما على أنهما لغة ينقصها البوح على الرغم من أنهما يمثلاّن نوعاً من المصير.

عرض مقالات: