اخر الاخبار

يتوغل الخطاب السردي في رواية (البصّاصون) الصادرة عن (مؤسسة الأمة للنشر والتوزيع- القاهرة، 2022) للروائي (عباس خلف علي) في عوالم خفيّة ومكتظّة لتحقيق رحلة البحث والتحرّي عن المجهول وتجلّيات المسكوت عنه في وقائع متباينة وموغلة في أزمنة متعدّدة قديماً وحديثاً، وهو يرصد حركة الحياة والشخصيّات وتداعيات الصراع الاجتماعي والسياسي والسايكولوجي، وذلك باستعراض سير الشخصيّات الواقعية والشخصيّات التاريخية مع تأطير الوعي المعرفي الذي يتعمّق بدراسة وتفحص الوقائع والأحداث.

عمد الكاتب إلى عنونة الفصول وهي عبارة عن مجموعة رحلات وتوّغلات في أعماق التاريخ والمسكوت عنه وما حدث ما يناظرها إبّان وقائع التاريخ من غزو وصراع وتداعيات.

ولعلّ من بين مآثر وجمالية السرد تمركزه وتناوله لظاهرة أو شخصيّات (البصّاصين) وفي مختلف العصور العربيّة والإسلامية وما شهدته هذه الطبقة المرتبطة بالملوك والسلاطين والأمراء من أحداث ومن دور يشير الى خطورة وظيفتها ومفارقات الحياة (السريّة) التي تعيشها عبر أسفار وأمكنة ودول وممالك، ولكنّ رواية (البصّاصون) لم تكن رواية بصيغة تاريخية أو سرد (توثيقي – وقائعي)، بمعنى أنها لم تكن رواية تاريخية محض على طريقة السرد (التايبولوجي) عند (جرجي زيدان)، بل إنَّ الكاتب (عباس خلف) استثمر روح التاريخ، استعار نسق (التأرخة) وسردية التاريخ ووظف ما هو تاريخي في السردي وعلى وفق هذه القصدية سعى لصياغة لعبة سردية وأسس لفضاء تتابعي تعمّق في ملاحقة الأحداث والشخصيّات ودلالتها عبر مساحة متسعة وفي مختلف الأزمنة والأمكنة ولم يرتكز على السرد الخطي بل لجأ إلى التقطيع لكسر طبيعة السرد التقليدي والتماهي مع سرد استشرافي لا يعتمد الحبكة التقليدية ومتن حكائي متراتب واعتمد على فصول هي أقرب إلى المتواليات السرديّة.

ونلحظ أغلب الشخصيّات منها: (أبو أياس) و (حسن الوزان) وغيرهما من المولعة بالبحث والتقصّي واستكناه المجهول وسرد وقائع التاريخ القريب والبعيد وما حدث في عهد العثمانيين والمماليك وغيرها من مراحل التاريخ، ولا يخفى الخيط أو الاستدلال الذي يحيل الأحداث إلى بعضها ويكشف عن دالّة التوالد والتشابه والتناقض الذي يحدث جرّاء الصراع بين أطراف أو معادلة الوجود الاجتماعي والسياسي، وصراع الأفراد مع ذاتهم ومع الآخر.

وتبدو نزعة البحث والمعرفة في كثير من شخصيّات الرواية إلى جانب الميل للسفر والترحال واكتشاف العالم، «لاحظت أولادي الذين أسميتهم بأسماء الشخصيّات الروائية التي كنت اقرأها وإن كانوا مختلفين عن تصرفاتهم وحركاتهم ولكنّهم مع ذلك يذكروني بما قرأت، إنهم لا يأبهون بهذا الزلزال الذي وقع على أبيهم ولم يُعدّ يخطر ببالهم سوى الممارسات الجنونيّة التي يستخدمونها بنشاط وحيوية على الأجهزة الحديثة مثل (الأتاري) وتبادل اقراص (السي دي) ومشاهدة الأفلام الممنوعة، صارت لهم علاقات واسعة لا يستهان بها، خصوصاً بعد سفرهم معي إلى بعض البلدان التي فيها انترنت مع كتّاب مرموقين وفنانين من مختلف أصقاع الدنيا، الميزة الوحيدة التي حبذّتها فيهم أنهم غير مكترثين بالسياسة وبعيدين عنها».

المقطع السردي يؤشر كثيراً من الجوهر الذي تنطوي عليه سردية (البصّاصين) المولعة بالبحث والتقصّي المعرفي لكشف الغامض والمضمر ووقائع وأحداث التاريخ التي لم ننتبه إليها كثيراً مع أنها تكاد تتماهى وتتطابق مع الأحداث والتداعيات المعاصرة وفي مختلف ميادين الواقع الاجتماعي وعوالمه المتناقضة والمتعدّدة وصراع الإنسان مع ذاته ومع الآخر ومع سيرورة التاريخ ودور وعي الذات في استقصاء المعنى الوجودي للحياة.

وليس من المستغرب القول إنَّ تناول سير (البصّاصين) بوصفهم شخصيّات إشكالية وراسخة وسائدة في التاريخ، وتمثّل أحد وجوه التسلّط وديناميات الهيمنة وقد تبدو في سلوكها الباطني والظاهري أقرب إلى الشخصيّات الغرائبية، وقد حقّق الكاتب ريادة ومبادرة لتناول هذه الطبقة التي ظلّت مهمشّة وتعاني الإهمال وعدم الانتباه إليها وإلى دورها وإشكالياتها الحياتية والواقعيّة والاجتماعية، وكونها تقع في مساحة قلقة بين السلطان والرعيّة، ولذا فقد حفلت الرواية بذكر سير هذه الشخصيّات والكشف عن وجودها وسلوكها وطبيعة المهام التي كانت تمارسها، وروح الغموض والمفارقة التي ترتبط بحياتها وعلى مدى العصور والأزمنة، ووجود هذه الطبقة يؤشر نوعاً من النظام الملتبس الذي يكون بحاجة لتنظيمه، وفي دراسة سيرها يمكن تحليل الواقع التاريخي وطبيعة الأحداث والصراعات التي يعانيها المجتمع وتتسّم هذه الشخصيّات بالغرابة وينطوي عملها على مفارقات تكشف تناقضات المجتمع وتناقضات السلطة ومحاولتها السيطرة والهيمنة على الحياة فذلك يعني استقراراً لملكها وقدرتها، وهي تؤدّي عملاً متّصلاً بشكل مباشر بواقع الرعية والناس وهم يمثلّون الجانب (الرسمي) للسلطة، ووفق هذه الخصائص يتطلّب أن تكون على درجة من الذكاء والفطنة، «هناك حادثة مشهورة ومعروفة لم يذكرها أحد ولم ينتبه لها المؤلف حصلت مع أحد (البصّاصين)، اسمه (محمد شهاب الفضلي) أصله من العراق ومن مدينة الفضل في بغداد، وإن أباه الذي كان يعمل في تجارة الحرير وجد أن بضاعته التي جلبها بفلوس أهل الفضل قد غرقت في البحر ولا يملك ثمن السداد ولا العودة فعاش في محلّة (العباسيّة سقا) فهذا الفضلي بن هذا السقا يقال إنَّ أباه في حياته تبرأ منه بسبب تهوره واشتغاله مع الحرامية والأدهى من ذلك أن هذا الشخص كان يكره المماليك وعوائلهم ويتجسّس عليهم لصالح (إسماعيل الصفوي) الذي حكم العراق». وقد جسدت الرواية بكل تشظياتها وتحولاتها ورحلتها عبر الزمان والمكان نوعاً من التشاكل والتناصّات مع المصادر التاريخية، وأصبح هذا الإشتغال خلفية للأحداث والشخصيّات، وتوظيف هذه الوقائع أسهم في تعميق الحس التاريخي الإنساني في تجسيد كل الأزمان وطبيعة الحياة في كلّ مرحلة من مراحل التاريخ التي استلهمتها ووظفتها في بنية سردية ممّا عزّز روح المفارقة والتشويق والمتعة من دون ترّهل أو فائضيّة سردية.

وتشير طبيعة الرواية وخصائص السرد الذي تمركزت حوله إشكالية التجنيس فيها فهي ليست خارج التجنيس بشكل مطلق ولكن تداخل العوامل والتقنيات والإحالات والتناصّات التاريخية جعلها تنتج نصّاً متداخلاً على مستوى التجنيس ولم تنتم تماماً إلى التوثيق التاريخي وكذلك لم تكن سرداً محضاً، ويمكن رصد ظاهرة وجود المحمولات الثقافية والتاريخية وسير الأدباء والشخصيّات المعروفة سواء أكانت تنتمي إلى عصور وأزمان قديمة أو تنتمي إلى الزمن المعاصر. وعبر خضم سرديات البحث والإكتشاف ورحلة البحث عن المعنى حفلت الرواية بذكر الوقائع والحروب والأزمات والتحوّلات والمفارقات التي مثلّت خزيناً (سردياً) جعل من الرواية تتسّم بالاتساع والشمول والرؤية الإستثنائية.

وهذه المزاوجة بين التاريخي والسردي والمقاربة المرتكزة على روح التحرّي عمّق من محتوى ومضمون الرواية، وجعلها تتسّم بالتنوّع وتعدّد مستويات السرد فضلاً عن توافر الإيقاع المتسّم بالتصاعد والتوثب وحدّة الانتقالات والتحوّلات داخل البنية السردية وتفعيل فواعلها من خلال الاهتمام بالشخصيّات والحدث والزمان والمكان وتوظيف الوقائع والمعطيات لجعل الأثر متعدّد الدلالات والأبعاد، وتتابع الشخصيّة مديات المجهول وتقديم صورة عن الغموض والموت والانتحار، «ومن هذا المجهول فكرتُ في مخاطبة الكتّاب الذين احتفظ بايميلاتهم، وعليَّ أن أصيغها بأسلوب صحفي مثير بعض الشيء، مثلاً: ماذا يعني الكاتب أن يحرق كتبه..؟ ولماذا يلجأ البعض إلى الانتحار..؟ هل هو الخوف من المجهول أم الشعور بالإحباط أم هو دليل على الاحتجاج؟ وفي كلّ الأحوال هل هذه ظاهرة نفسية أم مرضيّة للكاتب أم هي لحظة انتقام تراوده يريد أن يحقّقها بأي ثمن؟! كالتي تحصل في اليابان على غرار (كاميكاز) التي عزّزت روح الانتحار عند مؤلف رباعية بحر الخصوبة (ليوكيو ميشيما) أو عند آرنست همنغواي الأميركي، والانكليزية فرجينا وولف، وحتى الكتاب العرب لم يسلموا من هذه العدوى مثل الشاعر المصري أحمد العاص والشاعر السوري عبد الباسط الصوفي، والشاعر والرسام اللّبناني انطوان مشحور، والشاعر خليل الحاوي والشاعرة الجزائرية (صافية كتّو) والروائي العراقي المغترب مهدي الراضي وقاسم جبارة وغيرهم... المهم لديّ أن هذا الانتحار بقي لغزاً وإن كان بعضه يعلّل ذلك بالانهيار النفسي». ولعلّ وجود هذا النمط من تحليل الظواهر والوقائع ومتابعة الحكايات بكلّ مدياتها وأزمانها والبحث عن أسبابها وطقوسها ودلالاتها يعكس ضمناً وجود روح الرصد والمراقبة والتحرّي الذي تتسّم به شخصيّة (البصّاص).

وقد كشفت هذه التقنية أو الأسلوب في استعارة روح البحث والاكتشاف وتحويلها إلى دالة فكرية وسايكولوجية ومعرفية، وجعلها جوهر السرد وتداعياته، أي أنّ محتوى الرواية على سبيل المضمون والتأسيس ينطلق من كونها استعارت حدوسات التقصّي للكشف عن الظواهر والمجهول والمسكوت عنه وكأنّ كل شخصيّات الرواية أصيبت بعدوى البحث والإنطلاق في كشف خفايا الحياة والتوّقف عند بعض الظواهر لمعرفة الدوافع والأسباب والنتائج، وضمناً عملت الرواية على تأشير طبيعة المجتمع وطبيعة الصراع والتناقضات وتباين القيم والصراع السايكولوجي بين الذات والآخر والسلطة والمجتمع والواقع والتوق إلى المغامرة وإلى اكتشاف القواعد والمؤثرات التي تسهم في تكوين الفرد قبل تأثيرها في تأسيس المجتمع بكل وقائعه ومخاضاته.

وتمكنت الرواية من تحقيق نوع من التناص أو النسق الموازي كحرفة (البصّاصين) التي قد تعرضت إلى الانحسار أو الانقراض بعد أن كانت المهنة أو الحرفة الرئيسة التي ترتكز عليها الممالك والدول والأقوام المتسلطة، وهل شهد العالم آيديولوجيا (للبصّاصين الجدد) بعد أن تحوّل العالم ونتيجة التطور العلمي والتكنولوجي وتطور وسائل الاتصال وثورة المعلومات والاعلام مما جعل العالم يتحول إلى قرية صغيرة لا تحتاج إلى (بصّاصين) حقيقيين بعد أن امتلك الآلة والأجهزة والحواسيب والأقمار الصناعية لهذه الحرفة وإن بقي جوهر الفكرة والعمل والتوق نفسه، ولقد أثبتت تجارب العصر الحديث أنّ الميل للتحرّي والكشف ومتابعة كلّ التفاصيل وكل الأسرار ومعرفة كل ما يجري هو سمة الإنسان في كل زمان ومكان ولم يقتصر الأمر على أصحاب المهنة والحرفة فحسب.

فالرواية تمنحنا الشعور بأن الإنسان موجود طالما هناك مجهول وخفايا وأسرار ولا يمكن للحياة أن تجري مجراها الحقيقي من دون توافر حدس البحث والتقصّي ومحاولة معرفة كلّ شيء عن طريق الوعي وشغف المعرفة، ويمكن الاستدلال بهذا المقطع السردي الدال: «عربي من المغرب قال لي: أنت مصري؟ قُلْتَ لا.. أنا من العراق، ابتسم بوجهي وقال الغريب للغريب كالنسيب، ثُمَّ أردف: هل زرت هذا المكان من قبل قُلْتَ: لا.. ، قال الغرب يفكر في امتصاص غضب الناس ووضع هذه الحديقة التي تعرف (بهايد بارك) لتعبّر عن نفسك بما تريد، ولا مسموح لك خارجها أن تضرّ غيرك، إنها الحيوية النبيلة، التفتُّ إليه وقلت:

- «ماذا...» تجاهل سؤالي وقال:

الكاتب السوداني (الطيب صالح) كان مفتوناً بهذه العبارة ويردّدها عندما يزور هذا المكان مع ثلة من أصدقائه، ويتندّر بها ويقول ببساطة متناهية وبلهجته السودانية الدارجة «إيه يا زول» الناس عاوزه تعبّر عن حالم وهم مش عاوزين غير كده، ثُمَّ ينضم إليهم.. المشرّدون والجياع والمهووسون بالأوطان من المنفيين فيصبحون أمّة لا بأس بها».

رواية (البصّاصون) تجربة تستحق التوقف عندها لما تضمنته من اشتغالات وتقنيات وتوّجهات وصياغات استثنائية وعميقة ودالّة سواء على مستوى استثمار الواقع والتاريخ والمحتوى الإنساني، أم على مستوى تفعيل الفواعل الجمالية للسرد ممّا أنتج عملاً أو أثراً سردياً يثير المتعة ويحرّض على الانتباه والتقصّي الذهني.