اخر الاخبار

يحتاج المرء الى النضال من أجل حقوق الإنسان وحرية التعبير

تقول الكاتبة الأمريكية مايا أنجيلو: “إننا نكتب للسبب نفسه الذي يجعلنا نسير أو نتحدّث أو نتسلّق الجبال أو نسبح في المحيطات - لأننا نستطيع...” مضيفة “... لدينا بعض الدوافع بداخلنا تجعلنا نريد أن نشرح أنفسنا للآخرين. لهذا السبب نرسم، ولهذا السبب نجرؤ على حب شخص ما - لأن لدينا الدافع لشرح من نحن...” غالبًا ما يتجلّى هذا الفعل في سرد القصص، وهو الأمر الذي يشير إليه الكاتب الكندي يان مارتل على أنه “... الغراء الذي يربطنا معًا”، مضيفًا أنه “من دون قصص - شخصية، عائلية، محلية، وطنية، عالمية - نحن لا شيء؛ نحن لا شيء؛ نحن لا شيء”. أي أننا حيوانات منعزلة، نعبر السهل بغباء، لا نعرف إلى أين نتجه أو لماذا. القصص تحدّد هويتنا، وتخبرنا من نحن، وتعطينا الاتجاه..”

التقت مجلة ( ثوت ايكونومكس ) بالروائية اليف شفق لمعرفة المزيد عن فنها وكتاباتها وكيف يمكن للأدب أن يغيّر العالم.

إليف شفق روائية بريطانية تركية حائزة على العديد من الجوائز، والكاتبة الأكثر قراءة في تركيا. تكتب باللغتين التركية والإنجليزية، وأصدرت سبعة عشر كتابًا، من ضمنها أحد عشر رواية. تُرجمت أعمالها إلى خمسين لغة. حصلت شفق على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية ، وقامت بالتدريس في جامعات مختلفة في تركيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بما في ذلك كلية سانت آن بجامعة أكسفورد، حيث حصلت على مرتبة زميلة فخرية فيها. وهي عضو في مجلس الأجندة العالمية للاقتصاد الإبداعي وعضو مؤسس في (المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية). تعد شفق مدافعة عن حقوق المرأة  وحرية التعبير، وهي متحدثة عالمية  لمرتين في مؤتمر (تيد كلوبال) ، وتتلقى في كل مرة الإعجاب والتقدير. تساهم شفق في منشورات كبرى حول العالم وقد حصلت على لقب فارس الفنون والآداب. في عام 2017، تم اختيارها من قبل مجلة بوليتيكو كواحدة من اثني عشر شخصًا سيجعلون العالم أفضل. شاركت شفق في العديد من لجان التحكيم الخاصة بمنح  الجوائز الأدبية وترأست جائزة ويلكوم عام 2019.

 س: كيف دخل الأدب الى حياتك؟

إليف شفق : بدأتُ كتابة القصص في سنٍ مبكّرة. كان عمري حوالي 8 سنوات عندما بدأت بكتابة قصصي القصيرة الأولى. لكن لم يكن ذلك لأنني كنت أحلم بأن أصبح روائية يومًا ما. لم أكن أعلم حتى أن مثل هذا الشيء ممكن! لم يكن هناك مؤلفون من حولي سبق لهم النشر، ولم يكن هناك مثل هؤلاء القدوة. لذلك، كان الأمر بالنسبة لي أشبه بأن يمشي المرء في الظلام، محاولًا العثور على طريقه الخاص، متبعًا غريزته دون معرفة السبب تمامًا. بالنسبة لي، كان الأدب، ولا يزال، حاجة وجودية.

في ذلك الوقت، عندما كنت طفلةً في حيٍ محافظٍ ومتدينٍ في أنقرة، عاصمة تركيا، كنت أعتقد أن الحياةَ مملةٌ للغاية. لم يكن لدي إخوة، وليس لدي الكثير من الأقارب، وبعد حادثة اعتداء جنسي في الحي، لم يُسْمحْ لي مثل العديد من الفتيات الأُخريات، بالخروج واللعب في الشارع. أتذكّر بوضوح تلك الأمسيات الطويلة من الملل. أردت أن أجد بوّابة إلى “مكان آخر”، إلى أرض أخرى، إلى أرض القصص. لقد كانت الكتب والقصص بمثابة البوابة بالنسبة لي.

لهذا السبب أعتقد أنه من العدل أن أقول إنني بدأت كتابة الروايات لأنني كنت وحيدة. كنت طفلة وحيدة، طفلة منعزلة ، ربتني أم عاملة وحيدة، وهو أمر غير معتاد في ذلك الوقت في تركيا. حتى سن العاشرة، كنت مع جدتي، التي كانت شخصيّة استثنائيًة ومفعمًة بالحيوية ورحيمًة بشكل لا يصدق. كانت الجدة (مُعالٍجَة) وكان منزلها مليئًا بالسحر والخرافات والأعشاب وخرز العين الشريرة المتدلية وفناجين القهوة التي تنتظر “القراءة”. كنت أشاهد كل هذا بشعور من الدهشة. لقد أظهرت جدتي لي أن الكلمات لها قوّة.

عندما أنظر إلى رحلتي الأدبية، أدرك شيئين. أولاً، كنت دائماً قارئةً نهمةً، وأقرأ من الشرق والغرب على السواء. ثانيًا، كثيرًا ما شعرت بأنني “الآخر”. حتى في وطني الأم، لم أكن متأقلمة تمامًا. لم أكن كذلك قط.

ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنني ولدت في فرنسا، ستراسبورغ. بعد انفصال الوالدين، بقي والدي في فرنسا وتزوج مرة أخرى. وفي غضون ذلك، أحضرتني والدتي إلى تركيا. لذلك نشأت مع امرأتين وبدون أب. وكان ذلك أيضًا أمراً غير عادي بعض الشيء.

بالنسبة لوالدتي، كانت تركيا بالنسبة لها دون شك هي الوطن الأم الذي ننتمي إليه. بالنسبة لي، كان بلدًا جديدًا تمامًا وكان علي أن أكتشفه من الصفر. وهكذا وصلنا إلى منزل الجدة في أنقرة، وهو منزل محافظ للغاية وأبوي ومنغلق على نفسه. هنا شعرت وكأنني غريبة ، متشبّثة بحافة المجتمع، أحاول فهم طرقه، ألاحظ ، والاحظ .

ثم عندما كنت في العاشرة من عمري تقريبًا، أصْبَحتْ والدتي دبلوماسية، حيث سافرنا أنا وهي لفترة طويلة بعد ذلك الى إسبانيا والأردن وألمانيا. ذهبت إلى المدارس الدولية هناك وتعلّمت لغات أخرى.

في أوائل العشرينات من عمري، انتقلتُ إلى إسطنبول بمفردي، معتقدًةً بشغف أن المدينة تناديني ، وككاتبة، فهذا هو المكان الذي يجب أن أكتبَ فيه كتبي وأنشرها. لكن إسطنبول - التي أعتقد أنها مدينة النساء - كانت عاشقًا صعبًا. بعد سنوات عديدة من الكتابة والنشر، انتقلتُ إلى بوسطن، ميشيغان، ثم أريزونا، توكسون. ثم عدتُ مرةً أخرى و بشوقٍ أيضاً إلى إسطنبول ، بعد ذلك تركتها نهائيًا وانتقلتُ إلى لندن. إن حالة المنفى المستمرّة هذه هي حالة أجد صعوبة في شرحها للآخرين ولكنها الواقع الذي كنت عليه. لقد كانت الحياة دائما متجّولة. أنا بدويّة فكريًا وجسديًا وروحيًا. أنا مسافرة، على حد تعبير جيمس بالدوين. لقد منحني الأدب إحساسًا بالاستمرارية والتماسك؛ لقد أبقى أجزائي متلازمة معًا. لقد ساعدني ذلك على التواصل حتى عندما شعرت بعدم الإنتماء. لهذا السبب، عندما أقول أن الكتب يمكن أن تنقذنا؛ الكتب يمكن أن تكون أصدقاءنا الأعزاء، معلمينا الرائعين، رفاقنا المخلصين على الطريق، فأني أعني ذلك حقًا، لأنه حدث لي .

س: كيف يمكن للخيال والسرد القصصي أن يوسّعا حياتنا؟

إليف شفق: حسنًا، أريد أن أعطي مثالاً، إذا جاز لي ذلك. كنت طالبًة في المدرسة الثانوية في تركيا (بعد عودتي من إسبانيا) عندما قرأت لأول مرة رواية «جسر فوق نهر درينا» للروائي اليوغوسلافي إيفوأندريك، وفي ذلك الوقت، كانت هناك يوغوسلافيا بالطبع.

حتى ذلك الحين، في المدرسة في تركيا، كنت قد تشبّعت بالنسخة القومية من التاريخ في الكتب المدرسيّة. كنا نمتلك حضارة متفوّقة وقوّة عسكريّة متفوقّة وعملنا على تطوير أنفسنا. إنه السرد الكلاسيكي! لكن هذه النسخة الرسميّة من التاريخ كانت الرواية الوحيدة التي سمعتها عندما كنت طالبة. ولكن بينما كنت أقرأ هذه الرواية للكاتب اليوغسلافي إيفوأندريك، لأنني أحببت الروايات، وجدت مشهدًا كان فيه فلّاحان في البلقان يتحدّثان عن الإنكشارية - الجيش العثماني. يقول أحدهم إنه بفضل النظام العثماني، تمكّن الأولاد الفقراء في جميع أنحاء البلقان من الحصول على التعليم، وإذا كانوا أذكياء وناجحين يمكنهم حتى أن يصبحوا وزراء! يمكنهم أن يصعدوا إلى أعلى السلّم الاجتماعي، ويكسبوا الثروات والسلطة والهيبة .

لكن الفلّاح الآخر يقول ، بسبب النظام الإنكشاري ،عانى الناس بشكل كبير. تم أخذ هؤلاء الشبّان من عائلاتهم بالقوّة، وتم تغيير ديانتهم دون موافقتهم ولم يستطيعوا حتى رؤية أمهاتهم مرة أخرى. لقد أُجْبِروا على محوِ هويتِهم، ونسيانِ لغتِهم و ذكرياتِهم…. كيف يمكن أن يكون هذا نظاما عادلاً؟

وبينما أنا أقرأ هذا الحوار، إنفتحت فجاةً نافذة في ذهني. لقد فهمت ما كان يحاول الروائي فعله. لا يوجد شيء اسمه تاريخ واحد. هناك تواريخ وقصص متعددة تنتظر أن تُروى وتُبحث وتُفهم وتُقدر.

تتغيّر “القصة “ اعتماداً على مَنْ يَرويها. إن النظام الإنكشاري الذي تعلّمت أن أفتخر به في المدرسة كمواطنة تركيّة قد جلب الألم والبؤس والظلم لكثيرٍ من الناس على مرِ القرون. ولكن كان له أيضًا جوانبه الإيجابيّة، لذا كانت الحقيقة معقّدة ومتعددة الطبقات ولم نتمكّن من فهم هذا التعقيد بطريقة إنسانية دقيقة إلا من خلال الخيال. ما لا تستطيع السياسة أن تقوله وتتركه صامتًا، يمكن للخيال أن يقوله.

وهنا يكمن السبب في أهمية الأدب. إنه يُخرجنا من مناطق راحتنا ويدفعنا لرؤية القضايا من زوايا مختلفة. الخيال هو تمرين فكري. نحن جميعًا نمارس الرياضة – أو على الأقل نريد ذلك – للعناية بأجسامنا. ولكن كيف نعتني بالعقل؟ تساعدنا القصص على تطوير المرونة المعرفيّة، وتقوية عضلاتنا المعرفيّة. إنه نموُ فكري ولكنه نموّ روحي أيضًا. إنه يغيرّنا في أعماقنا. قصص تعيد إنسانية أولئك الذين تم تجريدهم من إنسانيتهم. إنها تساعدنا على فهم أنه لا يوجد “نحن” مقابل “هم”، وأن “الآخر” هو في الواقع أخي وأختي؛ الآخر هو أنا .

س: هل يمكن للخيال والسرد القصصي مواجهة الروايات المتأصلة حول النوع الاجتماعي والجنس والعِرقْ وما إلى ذلك؟

أليف شفق: الكاتب وحيد عندما يكتب، والقارئ وحيد عندما يقرأ. عندما نقرأ رواية، فإننا نتراجع إلى الفضاء الداخلي، ونسافر داخله. على الأقل لبضع ساعات، نحن لسنا جزءاً من الهويّة الجماعيّة. نحن مُجرّد إنسان يقرأ عن إنسان آخر. هذه الرابطة ثمينة جداً.

إن مجتمعات مثل تركيا تنقسم إلى قبائل. الكيانات الجماعية والقبلية تفشل في التعايش. الهويّات الجماعيّة تمحو الفرديّة. وليس من قبيل الصدفة أن الأيديولوجيات الاستبدادية تعتمد على “الحشود” - الجماهير، حيث تهتف الجماعات في انسجام مع الطاقة المتزامنة. هذه هي الطريقة التي نفقد بها الفردية. إن ما تفعله الروايات هو تغيير المسار واستعادة فرديتنا بطريقة تمكّننا من إعادة التواصل مع إخواننا من البشر.

عرض مقالات: