اخر الاخبار

كلما رأيت تلاميذ المدارس يحتقبون كتبهم على ظهورهم وهم يغذون السير نحو مدارسهم في أوقات مختلفة فرحين مرحين.تنهدت بحسرة وتذكرت سني طفولتي المعذبة والضائعة بين اللعب في الدروب المتربة لصرايف الميزرة والعمل الشاق في معامل الطابوق. التي تتاخم صرايفنا. كنت أفز مع الفجر من نومي منزعجا على صوت أترابي الصبية ينادونني إلى العمل..أتسلم عربة اللبن( بكسر اللام ) التي اشتغل فيها من الصباح حتى المساء في ذلك الصيف اللاهب الذي يشوي وجوهنا الغضة.من أجل أجرة بائسة مقدارها ( 150) فلسا.نستريح في الشتاء من ذلك العناء لتعطل معامل الطابوق. وفي عام ( 1958).لفت نظري رجال يرتدون حللا جميلة يسيرون فوق سدة القطار المار بالقرب من صرايفنا. يأتون من باب الشيخ والباب الشرقي ويمضون سائرين باتجاه معامل الطابوق. وصبيتهم خلفهم بملابسهم الزاهية وهم يحملون حقائبهم على ظهورهم.وعند العصر يثوبون فنتفرس فيهم بدهشة وانبهار وحسرة.على مر الأيام أعتدنا رؤيتهم صباحا ومساء.عرفنا أنهم معلمون في مدرسة بالقرب من المعامل بنيت منذ سنة وهذه السنة الثانية لها.أنتشر خبر المدرسة بين الأهالي، لكن أهالينا لم يرسلوا أولادهم إليها إلا القلة منهم . لقد شغلهم رغيف العيش واستحوذ على تفكيرهم. مرور هؤلاء المعلمين من أمام صرايفنا كل يوم. جعل الخواطر تتوارد إلى ذهني، بوجوههم النضرة هم وصبيتهم. خطر على بالي رجال سلفنا بوجوههم الجهمة الشاحبة وملا بسهم الخلقة المرقعة والنظرة الحزينة التي تطل من عيونهم . جعلني أدرك أن عالم القصور عالم خاص (عالم ملوك !!) يختلف عن عالمنا البائس نحن سكنة الصرايف. ربما للمدرسة شأن في هذا التباين بين العالمين في سلفنا البالغ  (30) صريفة خمسة طلاب يذهبون إلى متوسطة بعيدة بين القصور يتعلمون.فكرت مليا في الذهاب إلى المدرسة. ظلت هذه الفكرة تداعب مخيلتي عند شروعي في النوم فتغيب النوم عن عيني. لكنني تذكرت الكتّاب والملا الذي كان أبي قد دفعني إليه وتعلمت قراءة القرآن والكتابة والحساب عنده عندما أخلو من العمل حتى أحسنت القراءة والكتابة. لكن ذكرى قسوة الملا وعصاه التي تترك آثارا زرقا على ظهري ويدي لم أنسها قط. وحينما أتذكرها، انكمش وينقبض صدري. ويملأني الروع . نظرت إلى راحة يدي لعل آثار ضرب العصا المبرح ما زالت فيها.شعرت بالهواجس تنغص على فرحة الرغبة في الدراسة.سألت أحد طلاب السلف (أخي من الرضاعة. كان أسن مني) عن المدرسة: هل نجلس على حصير بال وننود برؤوسنا من الصباح حتى المساء؟ ونحن نقرأ القرآن، وعند كل هفوة يجلد الملا ظهورنا بعصاه؟

ابتسم الطالب وقال موضحا..مطمئنا:-أبدا..تجلس على رحلة خشبية والمعلم يعلمك ويحنو عليك كأبيك ولا يقسو عليك أبدا.

أراحني جوابه. مرت على خاطري فكرة فسألت نفسي:هل أغدو مثل المعلمين الذين رأيت وأكون ضابطا أو..لالا ضابط لن أكون مثل ذلك الذي الضابط الذي صفع والدي قبل سنتين عندما كان أبي يبلط الشارع النظامي لمعسكر الوشاش لالا سأكون طبيبا مثل الطبيب الذي يشتغل أخي فراشا في عيادته.أتذكر صادفته يوما واقفا في عيادته بملابسه البيض.صافحني وهو يبتسم ويعبق جسده برائحة المطهرات سأل أخي:- هذا أخوك؟

- نعم دكتور

-هذا ابيض وعيناه  خضراوان وأنت أسمر تختلف عنه .

وقتها ابتسم أخي مرتبكا وطأطأ رأسه

استعدت خواطري وقلت في نفسي: بل أصير معلما وأمشي مثلهم بهيبة ووقار،والناس يشيرون نحوي بانبهار:هذا معلم مدرسة.. سررت لهذا الخاطر.في عصر ذلك اليوم لم ألعب مع الصبية كعادتي.سألت جارنا الطالب نفسه راجيا:

- ماذا يحتاجون مني عند التسجيل في المدرسة؟

- هوية الأحوال المدنية

فسألته متوجسا:- فقط؟

فطمأنني وهو يبتسم:- فقط.

اغتبطت.رأيت طلباتهم يسيرة،لكن سرعان ما انتابني الغم عندما تذكرت عسر أبي وكيف كان يتضايق من الدرهم ( أجور الملا )؟ الذي كانوا يتقاضونه سابقا. رأى الحيرة في عيني.أدرك ما يقلقني.ابتسم وقال مطمئنا:- لا تخف.. الدراسة مجانا بما فيها الدفاتر والأقلام وفي الصباح تحصل على إفطار مجاني لم تذقه من قبل.

استحوذت علي فكرة المدرسة وشغلت ذهني تماما.شعرت بدوامة من الهواجس عن مكان المدرسة وربما تكون بعيدة.خطرت على بالي أمي.فهي الوحيدة التي تذلل المصاعب  أمامي. قلت في نفسي كيف أهتدي إلى المدرسة؟ لم يطل تفكيري إذ تذكرت المعلمين الذين يمرون بالقرب من بيوتنا الطينية.انتظرهم حتى يأتوا ثم أمشي خلفهم.

استرحت لهذه الفكرة. فاتحت أمي عن نيتي في دخول المدرسة لأترك العمل واللعب في الدرابين المتربة.رحبت بالفكرة.في الليل أخرجت جنسيتي من سفطها. وعند النوم تقلبت في فراشي مسهدا، لأن أفكارا اخذت النوم من عيني. في الصباح وقفت أنتظرهم على سدة القطار, بعد أن غسلت أمي وجهي ورجلت شعري. كان قلبي يختلج والقلق يعبث بأعصابي. لم أحرج أمي لتصحبني لكثرة عملها في البيت. أعتمد على نفسي.  لمحتهم قادمين. دق قلبي بعنف. تنهدت. مروا بي. غضضت الطرف منهم حياء. مشيت خلفهم. أبصرت امرأة تقود صبيها خلف المعلمين.خمنت أنها تريد المدرسة ،لتسجله.فكرت: أن أسير قربها ربما أحتاج إلى مساعدتها.شاهدت مبنى المدرسة في خاصرة سدة القطار خلف معامل الطابوق (لم تكن بعيدة عن صرايفنا ). هبطت من السدة خلف المرأة.اقتربت من باب المدرسة.أبصرت الفراش واقفا في الباب وكان عملاقا أسود الوجه، ضخم الجثة. حدجني مستطلعا . كشر عن أسنانه البيض فارتعدت فرائصي.بلعت ريقي..لذت بالمرأة وانزلقت معها داخلا.شاهدت تلاميذ يلعبون في باحة المدرسة بقمصانهم البيض النظيفة.(فيهم أسن مني كثيرا).شعرت بالارتياح.دخلت المرأة إلى غرفة المدير وصبيها يلوذ بعباءتها مرعوبا.تسمرت في الباب.. أختلس النظر إلى المدير بوجل.كان يتصدر غرفته والمعلمون يجلسون على الأريكة قبالته.بعد دقائق, خرجت المرأة وبيدها قصاصة ورق وصبيها يتبعها.كنت مضطربا وقلبي يدق سريعا ووجهي ينزعرقا. ما بك؟؟ خائف؟ ألم تريد أن تكون معلما؟ ألم تطرد مخاوفك وقلت لنفسك سأذهب وحدي؟..حقك لم تر موظف حكومة من قبل,لكن ألم تر المدير يكلم المرأة برقة وأدب؟

 بلغني صوت حنون انتبهت له:- أدخل.. ابني

دخلت غرفة المدير متعثرا بأذيال ثوبي.أدرت نظري المرعوب بين المدير والمعلمين

صالبت يدي إمامه.حدق بدشداشتي الخلقة وقدمي العاريتين الخشنتين.لم يندهش.يبدو أنه اعتاد على هذه الأوضاع :- تفضل ..ولدي؟

- عمي أريد أن أتعلم في المدرسة..

تملى وجهي الأبيض.أبتسم .خف الخوف عني.بيد مرتجفة سلمته هوية الأحوال المدنية. قرأ الجنسية. رفع حاجبيه. بدت الدهشة عليه وخاطب المعلمين : كبير..أحدى عشرة سنة.

 من دون المعلومات في سجله.تناول ورقة وكتب فيها وختمها وأمضاها.رفع رأسه الذي وخطه الشيب نحوي: تذهب بهذه الورقة إلى باب المعظم وتلقح ضد الجدري وتأتي غدا.

التقط أنفاسه لحظة ثم أردف مبتسما وقال:- قل أستاذ عندما تخاطبنا وألبس بنطلونا ولا تأت حافيا إلى المدرسة!!

كنت أطرف بعيني الخضراوين وأهز برأسي له موافقا,كنت كالمذهول.تذكرت أمرا استجمعت شجاعتي وقلت للمدير:- أنا أقرأ وأكتب وأعرف العمليات الحسابية.تعلمتها من (الملا).

هتف مبتهجا: رائع.. رائع ثم حول وجهه نحو المعلمين..لنضعه في الصف الثاني

قال أحد المعلمين مفاخرا:هؤلاء الجياع الحفاة سيكونون بناة الوطن الجديد وسيكون لهم شأن  في الدفاع عن الثورة.

عدت إلى البيت نشطا مسرورا،لكن سرعان ما داخلني الغم والكدر عندما تذكرت طلبات المدرسة،لأنني أدرى بظروف أسرتي الصعبة.فرحت أمي بعودتي.أخبرتها. بدخولي إلى المدرسة ثم اضطربت متلجلجا عندما أخبرتها بطلبات المدرسة.هونت علي وعندما عاد أخي الكبير من العمل عصرا.التمست منه متوسلة :

- يمه خذه إلى باب الشيخ وأشتر له قميصا وبنطلونا وحذاء

قطب وجهه. قالت له منبهة: يمه يفيدك ويفيد والدك ويفيدنا ويفك الخط لكما

حلت فوطتها وسلمته عدة دراهم قلبها بيديه فأستقلها: هذه للبنطلون فقط

 بانت الحيرة في وجهها وهي تنظر نحوي بحنان : أنظر إليه يلوي برقبته متضرعا أمسكت هنيهة ثم استطردت:- أشتر له من معونة الشتاء..رخيصة

 قال لها :- معونة الشتاء ..خلقة!

- يا ولدي أنسيت اننا فقراء ولا قدرة لنا على شراء الجديد.

ضاق صدره وقال لها: أنا تعبان سأشتري البنطلون.

هزت رأسها موافقة.فكرت بالحذاء والقميص كيف تدبرهما؟ تذكرت: جزمة أخيه قالت في نفسها: أخفي رقبتها تحت البنطلون ودشداشته أحورها بماكنتي قميصا. تنهدت مبتسمة لكونها وجدت حلا. قالت له: سأحور دشداشتك واجعلها قميصا له

سألها منكرا: والحذاء؟

- جزمتك الشتوية, ريثما يقبض والدك من المقاول وأشتري له حذاء

دفعني أمامه وهو يبربر غاضبا: متى نخلص من هذا التسول يا رب ؟!

عرض مقالات: