كان وحده في الشارع.. الساعات الأولى من فجرٍ لا يحمل برودةً ولا سخونة المناخ. أراد ممارسة الرياضة بطريقةٍ أخرى. لعلّه يتخلّص مما هو فيه من شعورٍ غائصٍ بالحيرة من خلال الركض، أخذته الشوارع الى سبيلها ليسحق بخطواته بعض الألم. ينفخ ما بداخله ليخرجه من صدره المكلوم، يشعر بزفيرٍ يدور حول وجهه ويعود الى سبيله الأوّل. مدّ ذراعيه مثل طيرٍ يحلّق من جديد بعد ان كان قد جرحٍ بجناحيه ذات صيدٍ ماكر، لعلّ راحةً بديهيةً قد تحلّق معه وتصاحبه ولو بشكلٍ مؤقّت،  تحرّكت الريح وضربت عينيه حاملةً حصى الشوارع وغبار الأرصفة، أسرع بالإغماض، كي لا يكدّره شيء، مطلقًا الزفير الحار فكان محمّلًا بالغبار، وقبل أن يفتحهما سمع صوت صرير بابٍ يخترق أذنيه. انفتحت عيناه على دهشة رؤية رجلٍ يخرج مثل شبحٍ متحاملًا على حدبة ظهره، وراح بالركض خلفه، كان يرتدي ملابسَ غريبةً عنه، أغمض عينيه من جديد، وفتحهما ليطرد وسواس الصور المرعية التي تداهمه كلّما أوى الى الصمت أو البحث عن الراحة،  وجد رجلًا آخر أكثر شبابًا، فتح بابًا وانطلق ليركض الى جانب الرجل الأول، كان يرتدي ملابس غريبة غير ما يرتديه أهل مدينته. هزّ رأسه ليزيح الرؤية التي التصقت في قحفة رأسه. ولم يزل يبحث عن لحظة إمساكٍ بما هو فيه ليحدّد المسار. أغمض عينيه ثالثة، كاد يسقط حين اصطدم بحجرٍ صلدٍ بحجم الكف، وحين فتحمها، انفتحت ثلاثة أبوابٍ، خرج منها ثلاثة رجالٍ أخرين يغطّون وجوههم بقلنسواتٍ سود، يرتدون ملابسَ مختلفة عن الاثنين الآخرين. صاروا يلتحقون بالنسق الى جانب الاثنين، ويواصلون الركض بصمت مريب. تحامل على ألم إصبع إبهام قدمه، أخذ نفسًا عميقًا، ليستوعب المشهد الذي يرافقه، مندهشاً برؤيةٍ الظلال التي تتقاطع مع ظله.  قال مع نفسه، أنهم ربما متّفقون على ممارسة الرياضة، أو يقيمون مهرجانًا يمزج بين الأزياء القديمة والحديثة والمسابقات الرياضية. لكنه لم يشاهد جمهورًا، قال مع نفسه، هي كاميرات تصويرٍ للصحافة والإعلام. ركض سريعًا ليتأكّد من حدسه، ركضوا مثله.. أبطأ من لهاثه وصار يهرول، أبطأوا مثله، لا يتقدّمون عليه ولا يتأخّرون أكثر، يحافظون على المسافة التي كان فيها الرجل الأحدب أوّلهم.. يراهم لا ينظرون اليه، عيونهم مصوّبةً الى نقطةٍ بعيدةٍ في أفق بعيد.  رآهم يشكّلون فصيلًا عسكريًا لتأدية الاستعراض أمام القائد، يرفعون الأقدام بذات اللحظة التي ترتفع فيها الأرض به.

هزّ رأسه ليطرد ما يعتقده لحظة رهن التصديق من الكذب، ويتأكّد من أنه لا يحلم، وإن الذين يركضون على يمينه بشرٌ من لحمٍ ودم. وأن المصادفة وحدها هي التي ساقته الى أن يتواجد مع هؤلاء الذين بدا عليهم العمر، وقد أكل من حياتهم وطرًا. لذا كان يردّد مع نفسه، أن الأمر يستحقّ العناء والمواصلة، وأنه ماضٍ في تحقيق هدفه بالتخلّص من ألم الحياة والواقع بالركض، حتى تخرج من صدره كلّ خفافيش الألم كما يسمّيها.

اتخذ قرارًا.. أن يغمض عينيه مرّةً رابعةً ويرى ما يحصل. أسرع الخطى، رأى الصورة أمامه سوداء، يقطعها صوتًا يأتيه من خلفه يشبه صوت أبواب تنخلع من أساسها. انفتحت أربعة أبوابٍ تفكّ التصاق ظلفاتها، ويخرج أربعة رجالٍ بملابس منوّعةٍ ووجوهٍ مختلفةٍ وأطوالٍ غير متساوية. يركضون على ميسرته، وعيونهم مصوّبة بذات الاتجاه للرجال الذين يواصلون الركض على نسق الميمنة، ليحافظ النسقان على ذات الحركة وتوحّد صوت وقع الأقدام في أذنيه، فيما كان رأسه يزداد في داخله قرع طبولً وأصوات أناشيدٍ ودبكات وهوسات مهاويل، تأتيه من بعيد من خلف أبنية وشوارع وأزقة المدينة، معجونةً باختلاط أصواتٍ لم يفكّ رموزها، تزداد في سرعتها النارية، جعلته يصاب بالارتباك، فيما كانت الأسئلة تتحرك مع خطواته، لكنه لا يعثر على جوابٍ لها سوى القلق.. لم يجد قرارًا غير مواصلة الركض الى حيث لا يعلم، وليس بتفكيره جوابٌ واضح عن كيفية إنهاء دورة الشفاء من الألم والحيرة، ولا من الخيبة التي طاردته وتطارده منذ ذلك اليوم الذي قرّر فيه أن يفتح باب الاحتجاج على ما هو كائن في المدينة المخيفة. قرّر أن يخفّف من سرعة الركض ويراقب ما يراه على جانبيه. شاهد رجلًا يركض بسرعةٍ يأتي من اتجاهٍ مقابل له، ليقف على مبعدة زقاقين، ينظر إليه بعينين مخيفتين. فتح بذراعي ما يشبه الباب الواسع لتخرج له صور من نار. التفت بزاوية قائمة من جهت اليمين. ركض رجلٌ آخر ووقف على ذات المسافة وفتح ذراعيه، ليدفع بابًا تخرج منه ريحٌ صفراء. التفت الى الزاوية القائمة الأخرى، ركض رجلٌ آخر وفعل ما فعله الاثنان، فافتح بابٌ كاشفًا عن صراخِ نجدةٍ، وعويلٍ غاضب، وحركةِ متاريسٍ، وحبالٍ تتدلّى وأسواط تخرج منها نار تنّين يربض للفتك.

هزّ رأسه. ودار حول نفسه أكثر من خمس مرّات، أصابته بالدوار، حتى لم يعد يعرف أي السبيل سيسلكه. ركض بسرعةٍ كبيرةٍ بالاتجاه الذي أوقفه فيه لهاثه. هرب بإغماضة العينين، فدهمه الظلام المخيف بأشكالٍ تثير في نفسه الخوف. وأخذ صراخٌ يخرج من حنجرته، لا يعرف ماذا يحمل من كلمات. لم يعد يسمع حركة النسقين ولا كلامًا يخرج من صدور الذين خرجوا من الأبواب.

بمنطق السيطرة المرتعش، قرّر التوقّف ليتلقط الأنفاس.  فلا لياقة تعينه، شعر بتعبٍ في ربلة ساقيه، وثمة حشرجةٌ مجروحةٌ تنزل من أسفل بلعومه، حتى منتصف صدره. وحين تحرّك كانت  خطواته ثقيلةً، بطيئةً،  فلحق به النسقان الميمنة والميسرة. شعر بالخوف يزداد تواجده وكثافته في صدره، وبدأت الأصوات تزداد، تخرج من أبواب البيوت المطلّة على الشوارع، ذكّرته بالمطاردة التي حصلت بينه وبين مسلحين أرادوا خطفه. كان في حينها مشاركًا في مظاهرة مطالبًا بإعادة محاكمة التاريخ، كان صوته يلعلع فتأخذه الريح الى أبنيةٍ محفوفةٍ القوة، سيّجت نوافذها وفتحات سطوحها بالمتاريس والحديد ووّزع العسس على الزوايا المخفية. أشاروا له بهمس أفواهٍ ثعابين أن يغلق باب الهتاف، ليفتحوا له بابًا واسعًا من المرح الذي لا يحلم به. قال بصوتٍ وجده أكثر رصانة. إن الأبواب التي لا تفتح للراحة والطمأنينة لا معنى لما يأتي منها.. حينها كان الجسر الذي يقف فوق رقبته الأولى أكثر ضيقًا بالمتاريس. اندهش من كثرة الأبواب المقفلة التي تمنع وصول الصوت الى عقول الناس. كان يطرق بقوّةٍ ليصل صوته الى من معه. لكنه حين أراد أن يتلقط الأنفاس لم يجد أحدًا. ظلّ وحده فوق الجسر، وصوته يدور حوله ثم يعود بصدىً أخرسَ، تحمله غربانٌ تحوم، فيما تراجعت النوارس الى أسفل النهر، تخبّئ مناقيرها بماء النهر الناشف. لحظتها أراد أن يركض باتجاه الأبنية والدوائر والبيوت. صعد الى منتصف انحناءة الجسر، لحقته أشكالٌ غريبةٌ ترتدي ملابس متنوّعة، لها أطوالٌ مختلفة، تحوّلت الى غربانٍ جعلته يركض الى الانحناءة الثانية للجسر، تلاحقه مواسير حديدية، تعلن امتلاءها بالبارود، وثمة أصابع عديدة ستضغط على عتلات الاطلاق إذا لم يغلق باب فمه. لم يكن بعد قد شعر بالتراجع. وواصل الركض الى رقبة الجسر الأخرى، التفت الى الوراء لعلّ أحدًا يفزع له ويناصره، لم يجد سوى التراب على شكل عاصفةٍ تلاحقه، فتعمي الأبصار. لم يعد يرى أبواب الأبنية من أي اتّجاهٍ تكون، حملته الريح وحيدًا على حافّة جادّة شارعٍ، وجد نفسه محمولًا على قميصه الذي قدّ من كلّ الاتجاهات. فيما كانت ورقةٌ ملفوفةٌ مثل كيس بائع حبّ عباد الشمس، وضع فيها بارودًا وعود ثقاب.

عرض مقالات: