اخر الاخبار

رواية “ آخر المدن” للروائي زهير الجزائري الصادرة عام 2024 رواية مدهشة بامتياز، وهي تختلف عن روايات المؤلف السابقة، فهي تحتشد بالحياة، لكنها حياة من لون خاص، ربما حياة الطبيعة والثلج، والجبل والصخور والنبات الطبيعي هي مجرد علامات صغيرة في هذا السفر السردي المحتشد بصراع الانسان الدموي ضد الموت وكمائن الخيانة تجعلان الحدث الروائي متواتراً ومفتوحاًعلى أفق توقع كارثي بانتظار المجزرة، لكن روح المكابرة والمقاومة، ورفض الاستسلام للاستبداد والخديعة ترتفعان بروح التحدي الانساني وتفتحان كوة في آخر النفق.

ومع أن الروائي يخبرنا في الـ “ مقدمة” التي هي عتبة نصية دالة، على أن الرواية كتبت في قرية (بشتاتان) الواقعة على السفح العراقي من (جبل قنديل)، وتحديداً من وحي المجزرة التي تعرض إليها فصيل من المعارضين لنظام صدام حسين الدكتاتوري في هذه القرية في ثمانينات القرن الماضي تحديداً في شهر آيار عام 1983 ، الا ان الرواية ابعد ما تكون عن النزعة التسجيلية أو الوثائقية . واذا ما وضعنا جانباً اسم القرية والمجزرة التي شهدتها ، نجد انفسنا أمام عالم يمور بالحياة يذكرنا بعالم آرنست همنغواي في روايته “ لمن تقرع الأجراس” حيث نجد الشاب الامريكي روبرت غوردن يقاتل الى جانب الجمهوريين الاسبان ضد دكتاتورية فرانكو الفاشية في عالم جبلي قاس يتأرجح بين الموت والحياة والرواية، هي أولاً وقبل كل شيء نص كتاب محايث الى حدٍ كبير، ولذا يمكن لنا قراءة الرواية بوصفها ملحمة للمقاومة الانسانية ضد المستحيل وضد طبيعة جبلية ثلجية وصخرية قاسية، لا يمكن أن ينهزم أو يتراجع، فهو دائماً المنتصر ، داخلياً وروحياً وقيمياً.

الرواية هذه تجسد لحظة إنسانية ووطنية نادرة في تاريخ النضال الوطني المشرف ضد الدكتاتورية والاستبداد والغدر. والرواية، ومع أنها تستمد الكثير من الواقعة المحسوسة ومن ظروف الحرب الدموية الا أنها لا تسقط في فخ الوثائقية والظرفية، لأنها تتشكل سردياً من خلال التخييل الروائي المنفتح، لخلق عالمٍ افتراضي يقع على التخوم بين الواقع والفنطازيا.

والرواية وان كانت تنغمس في وقائع الحرب، الا أنها ليست الحرب التقليدية التي تدور بين جيوش نظامية منضبطة، بل هي حربٌ من لونٍ آخر ، هي الحرب الثورية، ربما شبيهاً بحرب العصابات (الكوريللا) التي تخوضها فصائل ثورية مدنية ضد صروح الدكتاتوريات.

ومن الناحية السردية ، تكشف الرواية عن امتياز نادر يتمثل في توظيف ضمير المتكلم (نحن) بدلاً من ضمير المتكلم الفردي التقليدي (أنا) ، وهو توظيف نادر وقليل في الرواية العراقية، وجدنا له سابقاً إنموذجاً في رواية واحدة هي رواية “ سابرجيون” للروائي عامر حمزة الصادرة عام 2014 ،فمن المعروف أن ضمير المتكلم المفرد (أنا) هو الضمير المهيمن في السرد الحديث والذي يدل على صوت سردي يروي حدثاً معيناً من زاوية نظره، وبذا يكون السرد مبأراً. أما ضمير السرد الجمعي (نحن) فهو نادر في الرواية الحديثة، لكن  النقاد الامريكان لاحظوا صعوداً غريباً لتوظيف هذا الضمير في الرواية الامريكية منذ أكثر من عشرين عاماً، وتحديداً بعد الحادي عشر من أيلول 2001 ، دون اكتشاف سر هذا الترابط . وليس معنى هذا خلو السرد الامريكي من توظيف ضمير الجمع هذا،إذْ سبق للروائي الامريكي وان وظفه في قصته المعروفة “ وردة من أجل أميلي”.

أما في العربية فيختلف علماء اللغة في تحديد طبيعة هذا التوظيف فهناك من يرى ان توظيفه يشير الى إضفاء صفة التفخيم وأحياناً الغرور على الراوي، وهناك من يرى أن توظيف ضمير المتكلم الفردي (أنا) دليل على صعود النزعة الفردية .

ويخيل لي أن توظيف ضمير الجمع (نحن) في رواية “ آخر المدن” دليل على المشاركة الجماعية في السرد والموقف فالراوي ، وان كان فرداً من جماعة محددة، لكنه لا يرغب في أن ينسب السرد اليه تحديداً، بل الى الجماعة التي ينتمي اليها، لأنها هي التي صنعت الحدث بصورة جماعية، وهي التي عانت وقاست الكثير من أجل قضية مشتركة تهم الجماعة وليس فرداً بعيداً، مهما كانت أهميته وهنا لابد من الاستدراك والتأكيد ان هذا اللون من السرد يقع تحت مظلة التبئير الجمعي.

زهير الجزائري في هذه الرواية هو رسام وصانع سيناريو سينمائي،يضع الوصف في مقدمة إهتماماته السردية حتى ليذكرنا بمدرسة الرواية الجديدة في فرنسا، وهو دقيق فيما يصف، وقد يبتعد قليلاً عن لغة السرد المنضبطة الى لغة الشعر التخييلية الجامحة، وهو ربما اذا استخدمنا مقولة الناقد ياسين النصير في كتابه” حائك الكلام” يحيك سرده الروائي من خلال التخييل السردي عبر لبناته  الأساسية : “ العلامات” أو الكلمات. يستهل الروائي زهير الجزائري سرده الروائي دونما مقدمات بالدخول الى قلب الحدث، تاركاً القارئ بانتظار ما ينجلي عنه السرد اللاحق ، لاستكمال صورة الفعل الروائي الاساسية لكي يستطيع أن يلاحق دفق الاحداث المنفلت. “ بعد أيام من الانتظار على حافة الأرض الحرام جاء رسول ليبلغنا، البختيار أعطاكم الأمان في أرضه وامر الحماية والزاد حتى تستقروا، وتدبروا أموركم .” (ص 7).

ونكتشف أن الفعل السردي في الرواية يبدأ تحديداً من نقطة الهزيمة التي لحقت بالمجموعة.

“ كنا اول الجماعات التي أفلتت من الهزيمة والحصار.. حتى وصلت حافة الجبل الذي تسيطر عليه قبائل البختيار ,” (ص 7)

وللوهلة الأولى يستحيل على القارئ العادي ان يحدد نوع الهزيمة التي أفلتت منها الجماعة ، وفيما اذا كانت هي الهزيمة المأساوية في قرية (البشتاتان)، أم هزيمة اخرى محتملة، لأن ثمة سلسلة من المجازر التي ستتعرض لها الجماعة لاحقاً بفعل موقف قيادة قبائل (البختيار) التي تواطأت مع النظام الدكتاتوري للتخلص منهم (عربوناً) لفتح صفحة جديدة معهم. ومهما يكن ذلك ، على مستوى التوثيق التاريخي ، فنحن اولاً، وقبل كل شيء، أمام نص سردي ، ورقي كما يقول رولان بارت، لنا الحق في ان نحتكم اولاً الى آلياته وسياقاته السردية، ونرجئ قليلاً التاريخ والزمان والمكان والرواية هي في جوهرها رواية رحلة بحث، وبشكل أدق رواية رحلة قاسية وضروس بين الطرق الثلجية والصخرية، انتقلت فيها الجماعة من نقطة شروع وصولاً الى قمة جبل العاشق، المكان الافتراضي للنجاة والحياة الامنة.

والجماعة في هذه الرواية،ليست كتلة صماء، بل هي مجموعة من البشر الأحياء الذين يحملون الكثير من الأحلام والتطلعات، كما يفجرون بسيل ذكرياتهم الحياتية السابقة:

“ هنا، كما أمر البختيار ستقيمون “معسكركم” (ص 11 )

وهو مشهد يذكرنا برواية “ عناقيد الغضب” للروائي الامريكي جون شتاينيك عندما وصل (آل جود) في رحلتهم المظنية من اوكلاهوما الى كاليفورنيا الى فضاء مفتوح وأمرهم الجد، كبيرهم:

“ هنا سنقيم مجتمعنا”

لكن الاقامة تتعرض الى المخاطر، التي تدفع بالجماعة لمواصلة الرحلة نحو المجهول ، وسط ألغام الصخور والثلج والكمائن.

وشيئاً فشيئاً تنكشف شخصيات الجماعة” الفردية .اذ سرعان ما نتعرف (بهاء) القائد السياسي للجماعة وهو ابن فلاح تحول بقرار من القيادة الى عامل بناء، قاد الاضرابات في شبابه، وامضى عشر نوات في السجن.” (ص 16 )، كما نتعرف الى بعض الشخصيات النسوية منها “سمية” التي لا يمكن لها أن تنسى الآلام التي عاشها في أقبية التعذيب. (ص 18 ) وقد ساعد ظهور (سمية) على تحريك الحدث ومنحه رقة “وعذوبة” كما نتعرف لاحقاً الى شخصية نسوية مهمة هي الدكتورة عشتار التي استطاعت بمساعدة زوجها الدكتور مالك وبقية المجموعة من بناء مستشفى ميداني بردهتين عند سفح جبل العاشق سوف يستقبل مرضاه من ابناء القرى المجاورة، كما نتعرف على شاعر فطري شاب يبدو مثل درويش هندي بشعره اللماع ولحيته، وكان ساخطاً لأنهم القوا بدفاتره في النهر اعتقاداً منهم انها تنطوي على سحر الأبالسة وكانت لغته مع الجماعة لغة شعرية بدهشة وهو يقدم نفسه للجماعة.

“ جئت في سورة الماء ، جئت في الخنادق المهدمة، أنصاف جثث خرجت من فتحات الدبابات المحترقة. باختصار هربت من ملاحقة الجثث .” (ص 13 ) .

وبدا الشاعر الغريب متوحداً مع الطبيعة عندما أخبرهم، أنه مدعو الى حفل، وعندما سألوه عن أي حفل يتحدث قال:

- نعم ، اليوم تحتفي الحشرات بزهرة الخوخ.” (ص 24 )

وكان الشاعر أول من نبه الجماعة الى الفردوس الممتد أمامهم عندما قال لهم:

“ الا تشبه الارض لحظة الخليقة”

وفغر الجميع أفواههم يتساءلون اين كنا عن كل هذا! وكانت السهول مغطاة على امتداد البصر بعشب ذهبي يشبه أبراً ضوئية ، وفوق الغابة ما تزال الثلوج تسرب الماء الى السهل والغابة.” (ص 23 )

وتتالى شخصيات الرواية المدهشة لتكشف عن ذوات انسانية مشبعة بالحياة والأمل والثقة، مثل زوجة جوتبار وخضر وابراهيم وهشام وبشير واحمد ودحام رشيد وعبير ورشدي وعبد الله وقيس وغيرهم ، وهي كلها شخصيات حية مترعة بروح الشباب والتحدي والأمل أسهمت في خلق هذا الجو الجماعي. للسرد بضمير (نحن) الجمعي الذي يشير الى تضامن الجماعة وقرارها المشترك في هذه المواقف المصيرية الوجودية، يظل أمام القارئ سؤال اشكالي يتعلق بدلالة العنوان “آخر المدن” فليست هناك قرائن كافية تدل على عليه لكن المؤلف يسعفنا في “التذييل” الأخير للرواية الذي يحمل اسم “آخر المدن”

“ ما اسمها ؟

“ ....

أقصد المدينة التي تركناها ؟ .. .” (ص 219 )

ومن الملاحظ أن هذا “ التذييل” يسرد بضمير (الأنا) الفردي وليس الجماعي (نحن) ، بما للدلالة على حضور المؤلف شاهداً على المأساة البطولية هذه حيث يعترف أنه لا يعرف  اسم المدينة

“ يدري أن، النسيان سيزيل بجناحه الضبابي هذه المدينة أيضاً كأنها صنعت من مادة الوهم أو من الشواش الذي يجبها.” ( ص 219 )

ترى أكانت تلك المدينة هي “المدينة الفاضلة” التي تحدثوا عنها مراراً، وان بروح الفكاهة السخرية. :

“ تستيقظ المدن الفاضلة .” ( ص 217 )

ربما هي صنو “ المدينة اين” التي بحث عنها أيضاً الشاعر سركون بولص في ديوانه “ الوصول الى مدينة أين” قد تشير الى الوطن أو مدينة الطفولة البريئة

ويبدو لي أن هذه المدينة تظل كناية عن كل مدينة جميلة او مدينة فاضلة احببناها وبنيناها بعرق جباهنا ، وظلت تعيش داخلنا الى الابد

- عفواً.

- هل قلت انها رواية تستحق  ان تشدّ فيها على يديّ

- انها حقاً كذلك

عرض مقالات: