تساءلتُ لمَ لمْ يكن العنوانُ ( بين نزفين )* وكفى ... كأغلب المدونات السردية التي تترك إعراب المبتدأ مؤولاً على تقدير المحذوف وتكتفي بالخبر الظاهر على الغلاف ؟ ولعل الجواب الذي أجتهد به هو الآتي : إن إظهارَ المبتدأ هنا يتخذُ توكيداً للذات المتألمة الخائفة ولاسيما أن المبتدأ جاء بضمير الغائب ( هو ) لا بضمير الحاضر ( أنا ) وضمير الغائب هو أشملُ وأكثرُ مساحة ذاتية ؛ لأنه أي ضمير الغائب ضميرٌ غيرُ شخصي بل يمكن أن يدل على الأنا وعلى الآخر وأن يدلَ على معنى الشأن أو الأمر أو القصة أو الحدث ، فضمير الغائب إذن يعمل على إبراز الشخصية وحضورها في النص ولاسيما أن في داخل المتن السردي للرواية يعمل الروائي مشتاق عبد الهادي على التحدث بضمير الأنا وأن هذا الانتقالَ بين الغياب في العنوان والحضور في النص له دور في انسجام النص وتكوين شخصية بطل الرواية ذاتيا وموضوعيا ... جاء الخبر (بين نزفين) على الظرفية المكانية بدلاً ( هو في نزفين ) لتبيان الأمكنة النازفة التي وقف بينها لا وقوف المتأمل فحسب بل وقوف المتألم للنزف الأول ووقوف المشارك في النزف الثاني والنزف في اللغة سكب الدم بغزارة بشكل غير طبيعي ... والنزفان في عنوان الرواية كناية عن الحربين .... إن الروائي قد ضمن روايتين في رواية واحدة وآية قولي تدوينه بطريقة التوالي لتأريخ الحربين (80 / 89) و ( 90/ 91) قص الراوي في الأولى مشاهداته لآثار الحرب في حياة المدنية ؛ لأنه لم يكن جندياً بعد ... وقص في الثانية مشاهداته للحرب لأنه كان جندياً فيها .... ومابين الصورتين المشهديتين يبرز الحديث النفسي الداخلي للبطل وهذا النوع من السرد يُعنى بالأحوال الوجدانية السرية للفرد تعكس الصراعات الداخلية التي كان يعيشها الإنسان وقتذاك لعدم وجود حرية البوح والاعتراض على كل العبث السياسي والعسكري الذي في الحربين ... إن حديث الذات الداخلي هو الصوت الداخلي للبطل لبلورة الفكر النقدي الذي يشخص السلبيات المحيطة به ، وكثرة هذا الصوت الداخلي في الروايات عموماً ورواية ( هو بين نزفين ) خصوصاً يجعل من بطل الرواية مكتئباً حزيناً يعالج بعض اكتئابه وحزنه ببعض السلوكيات التي علها تخفف بعض الحزن ... إن الحديث الداخلي مع النفس تحفزه مصادر خارجية وهذه المصادر الخارجية الحب والحرب والدين والسياسة ....
المكان في الرواية كان بوصف دقيق لكن هذا لا يعني أن فائدته كديكور فقط وإنما جاء وصف بعض الأمكنة بدقة وأخرى اكتفى بذكره فقط ، كونه أي المكان له تأثير على مسارات الشخصية وتحولاتها الفكرية ....
المنظور في الرواية أو البؤرة أو الرؤيا .... جاء المنظور في الرواية من النوع المصاحب للشخصية الذي يؤدي إلى خفوت صوت المؤلف وارتفاع صوت الشخصية وقد تعدد المنظور في هذه الرواية وانقسم إلى منظور أيديولوجي / منظور نفسي عاطفي / منظور زماني مكاني .... وهذه كلها انحصرت كلها بالبطل ماعدا المنظور الأيديولوجي الذي كان للأب الشيوعي دور مشارك فيه عندما اعترض على ابنه أن يكون ضمن الطلائع أو الفتوة .... المنظور النفسي وهو بمثابة الكاميرا المثبتة على عين البطل واتخاذه موقفاً نقدياً لا من الدين إنما من بعض رجال الدين ولاسيما الذي احتال أحدهم فأخذ منه حبيبته ... المنظور الزماني والمكاني فثمة أزمنة وأمكنة معادية أو سلبية لبطل الرواية وهي زمن بدء الحرب وأمكنتها ( الثكنات العسكرية ) ....
لغة الرواية : بما أن الرواية تنتمي إلى الواقعية جاءت لغتها مباشرة واضحة لغة تحفز على الوعي ومراجعة ما حدث فهي لغة إيقاظية ... تؤطر تجربة اجتماعية محلية بامتياز.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* "هو بين نزفين" رواية مشتاق عبد الهادي/ منشورات اتحاد الادباء والكتاب في العراق- بغداد.