اخر الاخبار

لاشك ان مفهوم التنوير (Enlightenment) له مميزات ترتبط بمعنى الكلمة نفسها، والتي تأتي من النور والاستنارة اي التبصر والتعقل وقياس الظواهر كافة التي تحيط بالإنسان بنوع من المنطق والمعالجة الجديدة التي تغادر سيطرة الثوابت او المحددات التي قد فرضها المجتمع والبيئة من تقاليد وعادات استطاعت بتحولات الزمكان ان تكون ظاهرة بل ونافذة ومؤثرة في كل ميادين الحياة التي تواجه الانسان. اذ يرى (كرستوفر هل) في كتابه “الاصول الثقافية للثورة الانجليزية” الذي صدر عام (1965م) بان افكار التنوير في انجلترا كانت ذائعة في القرن السادس عشر، ومن هنا تبدو الصلة بين عصر النهضة وعصر التنوير، اما (بيتر غراي) في كتابه (التنوير) يؤكد ان هذا المصطلح بكل ما يعنيه من دلالات وافكار يعود الى اليونانيين، بعد اعتماده على ما ذكره (ديودور) في تدوينه للتاريخ بان (ارسطو) اول الطبيعيين الاقدمين، على حد وصف (ديودور) وهو اول من ادخل المنهج العلمي في الفلسفة. وكل من جاء من بعده اتخذ من العقل ناقداً لذاته، ثم ان فلاسفة اليونان قد استنبطوا الاخلاق من طبيعة الانسان، وليس من طبيعة (الله )، ومع ذلك فان الرأي الشائع ان القرن الثامن عشر هو عصر التنوير.

لقد اصبح مفهوم التنوير ولاسيما في الثقافة يعني الاهتمام بإبراز قوى العقل الانساني وفكرة التقدم الاجتماعي. لقد بحث العديد من الفلاسفة عن دور التنوير في حياة الانسان من خلال البحث عن الحقائق التي يمكن ان تقودنا الى التقدم والكشف عن الجديد والمضمر والمشفر في الثقافة التي اصبحت بفضل تيارات العولمة والانفتاح التقني والاتصالي الهائل اليوم، اشكالية كبيرة لا يمكن ان تتصدى اليها الثقافة المحلية من هوية ثقافية او خصوصية ذات سمات ترتبط بالمكان، فالتنوير في خضم تلك التحولات هو البحث عن تحسين ثقافة الانسان وتطويرها بما يضمن تطور الرؤيا والنظرية والتطبيق عن الانسان بشكل عام والانسان المثقف المعاصر بشكل خاص. لذلك طرح العديد من المثقفين المحدثين آراء عدة في هذا الميدان بان لا وجود لمعرفة شمولية قادرة على فهم الطابع الموضوعي للعالم، بل بالعكس نحن نمتلك ونحتاج الى وجهات نظر متعددة يمكن من خلالها فهم الوجود البشري المعقد وغير المتجانس. غير ان (ميشييل فوكو) اشار الى اننا لا يجب ان نكون (مع) او (ضد) التنوير، كما طعن في فكرة وجود فواصل نهائية واضحة ومميزة بين فكر التنوير وما بعد التنوير، والمسألة ليست في قبول او رفض العقلانية التنويرية، بل بالتساؤل حول ماهية العقل وكيف يتم استخدامه، مع التنقيب على آثاره التاريخية وحدوده ومخاطره.

وللثقافة أثر كبير في تحديد هوية الشعوب، ومراحل تحولها وتطورها الفكري والمعرفي، وترتبط الثقافة بالقومية ، إذ أن القومية لها دور كبير في تفعيل وتحول الثقافة، فضلاً عن تعلقها بالعادات والتقاليد والبيئة والفكر والأديان واللغة. والثقافة بمعناها الحضاري الشامل، هي هذا المكان الفكري المتطور والمتجدد الذي يعد جوهر الإبداع في الفن والعلم على حد سواء، انه زمن إبداعي عالق بفكره الإنسان منذ أقدم العصور حتى اليوم والأمة التي تجعل زمنها فكراً إبداعياً ، تتمتع بقدرتها الفائقة ومهارتها الخلاقة في ميدان العلوم والفنون وهي روح الثقافة الأصلية هي امة حضارية بدينها وعقائدها، بفنها وعلمها  فالإبداع والابتكار في شتى حقول المعرفة الانسانية هو مظهر من مظاهر الثقافة وتطورها، فضلاً عن ارتباط تلك الثقافة بتاريخ الأمة وأهدافها الإنسانية، كما ان الثقافة بالمعنى الإنساني هو صقل الذهن والذوق والسلوك وتهذيبه أو ما ينتجه العقل البشري لتحقيق هذا الهدف، أما الثقافة الشعبية فلها معنى مختلف عن الثقافة التي يقوم بها متخصصون، وليست مقتصرة على القيم والعادات التي يتلقاها المرء من المجتمع.

اذ لابد للثقافة من إثبات ذاتها، ونشر أهدافها، وتحريرها من سيطرة الغزو الثقافي الأجنبي، ولعل من أهم أنواع الغزو الثقافي الأجنبي هو ظهور العولمة Globalization، والعولمة بمفهومها المثالي هي أية متغيرات جديدة تنشأ في إقليم ما في العالم سرعان ما تنتقل إلى أقاليم العالم الأخرى منشئة نوعاً من الاعتماد المتبادل بينهما ، وقد ظهرت العولمة كمفهوم سياسي جديد بعد الحرب الباردة تتلخص في السيطرة على العالم، تحت أسماء وعناوين مختلفة منها النظام الدولي الجديد)). أن فكرة عولمة الثقافة هي من ابرز وجوه العولمة فهي تعني صياغة مكون ثقافي عالمي وتقديمه أنموذجاً ثقافياً وتعميم فهمه ومعاييره على كل العالم في ظل نظام دولي جديد. إن العولمة الثقافية ما هي إلا هيمنة للثقافة والقيم الأمريكية من خلال نظم الاتصال الحديثة وكما هو متعارف عليه.

مما تقدم فأن الثقافة هي المصدر الرئيس لبناء أفكار كل امة من الأمم والتي تنعكس على بناء ثقافة الانسان ولاسيما التنويرية في ضوء العلاقة المهمة ما بين التنوير كفكر والثقافة كنتاج واداء ومنجز حضاري مهم، وإبراز ذاتيتها الإبداعية ومنها من خلال الادب والفن والعلوم وكافة الجوانب الثقافية.

عرض مقالات: