اخر الاخبار

القاص والروائي جمعة اللامي، الذي رحل عن عالمنا فجأة في السابع عشر من شهر نيسان الجاري 2025، يظل دائماً منذ أن تعرفت عليه في سجن نقرة السلمان عام 1963 وسجن الحلة عام 1965 ذلك الفتى الشيوعي المتمرد والمتصوف في آن واحد، الذي يحب عزلته وغربته الشخصية، ولا يرتضي بشيء ثابت او مكرر. فهو يبحث دائماً عن المختلف والإشكالي ويشاكس الأعراف السردية مصطدماً بقوة بجدار اللغة والشكل

. عرفناه لأول مرة عبر مجموعته القصصية المبكرة " من قتل حكمة الشامي" التي صدرت عام 1965 بوصفه قاصاً تجريبياً وحداثياً من رواد الحداثة القصصية في الستينات في العراق.

لقد إرتبطت نزعة الحداثة آنذاك، لدى معظم قصاصي الستينات، ومنهم جمعة اللامي، بمحاولة " إبهار" القارئ، وربما صدمه ببنيات سردية، كتابية ومرئية مغايرة، وابلاغه أن ثمة جيلاً جديدً،قد دخل ميدان السرد بقوة، وأن ثمة بنى سردية بديلة بدأت بالتشكل على أنقاض البنى السردية التقليدية. لذا لم تقتصر "من قتل حكمة الشامي" على الكتابة السردية فقط، بل إقترنت بالصورة والتخطيط ودوائر الرؤيا والفنطازيا، وهي كفيلة باصطياد وعي القارئ واستدراجه الى فضاء تجربته السردية والرؤيوية الساخنة.

لقد مال جمعة اللامي، منذ بدايته الى أسطرة شخصياته، والى النزول الى القاع الاجتماعي للمجتمع العراقي لاقتناص الشخصيات المهمشة والمنبوذة والغريبة، كما سعى لاكتشاف قارات جغرافية جديدة،لم يكتشفها أحد من قبل، منها اكتشافه لمدينة " اليشن" الميسانية، وهو يعترف بأنها مدينة اكتشفها في خرائطه الشخصية، وتقع جنوب محافظة ميسان، ومن الممكن ايجادها بسهولة اذا ما حاول المرء اكتشاف خرائطه الشخصية. ويعلن القاص بأنه بعد أن اكتشف أرضه الخاصة، في هذه الصحراء الكونية، المترامية الأطراف، راح يبحث عن محراثه الذي لا يشبه أي محرات آخر، وبدأ بحراثة حقله، وفي الجغرافيا التي يختارها، حيث وجد أن أسلوبه الذي يبتغي، هو المضمون أيضاً، ويقول بثقة عن توحده مع نصه:

"أنا هو نصي وحدي، الواقف على قدمّي الصلبتين، في مواجهة هاويتين."

لم تكن نصوص جمعة اللامي تحمل دائما تجنيساً سردياً واضحاً، ففيها يختلط السردي بالشعري، والواقعي بالفنطازي، والعرفاني بالصوفي.

"المستنقعات، والطيور، والافاعي، القصب، البردي، اللا إكتراث، حالات التخدر وانثلام الذاكرة : أنا"

كما يشغل الموقف الصوفي، مساحة كبيرة في سرد جمعة اللامي، حيث تتكرر ظاهرتي الحلول والتناسخ، فضلاً عن الشطحات الصوفية والعرفانية:

"أقول، كان الذي أعز من نفسي مقيماً تحت جلدي، يقاسمني النوم والصحو، وله عندي منزلة. (ص 42) 

وتكشف قصص جمعة اللامي ورواياته عن نزعة ميتا سردية واضحة، وحضور للقارئ:

"لم أتأكد من صحة هذه الرواية بعد، رغم أن وثائق مجلس المدينة أشارت الى الجد العاشر." (ص 38)

ويظل قريباً من قرائه وهو يحاورهم، في اشارة ميتا سردية واضحة:

"أشعر أن بعضكم يلومني لهذا السرد. حسناً أيها القراء كفّوا عن غلوائكم بعض الشيء. " (ص 15)

قد تبدو الكثير من كتابات جمعة اللامي السردية، منفلتة وتفتقد الى الانضباط البنيوي السردي، وتغدو أحياناً مثل هذيانات سوريالية خالية من المنطق والترابط، ولكن ماذا في ذلك:

أليس السرد الهذياني لوناً من السرد، له شعريته الخاصة، وهذا ما تتطلبه نصوص جمعة اللامي: الانفتاح والاستعداد لتلقي المدهش والمفاجئ والمفارق دفعةً واحدة، للاندراج في فضاء المتعة الروحية، واقتناص اللذة التي بشر بها رولان بارت عند تلقي النص.

رحل جمعة اللامي بعد أن أثث مكتبةً سردية شامخة، وخلق مدناً متخيلة وخرائط لجغرافيا فنطازية واسطورية للسرد القصصي والروائي العراقي.

عرض مقالات: