ربما لم يدر في خلد الشاعر الياباني ( باشو ) وهو يحتضر عام ( 1694م ) ويكتب قصيدته الهايكوية الأخيرة قبل موته ( مريضٌ وقت رحيلي / أحلامي تتجول طافية في حقول ذابلة / كفراشة تحلق راقصة ) أقول ربما لم يدر في خلده أن سيتخطى اسمه وطريقة كتابته الشعرية جغرافية بلده إلى جغرافيات أخرى ؛ ليكون أباً ورائداً لجنس أدبي بدأ يأخذ صداه ومداه في الوقت الحاضر وهو شعر الهايكو. والهايكو شكل شعري يكتب من ثلاثة أسطر أو ثلاثة مقاطع مشروطة ــــــــــ الأسطر أو المقاطع ـــــــــ بالانطباع العفوي والإحساس باللحظة الحاضرة ، بتوظيف الألفاظ البسيطة المطروحة في الطريق بمعنى أن شاعر الهايكو لا يعتمد المعاني المطروحة في الطريق فحسب، بحسب مفهوم الجاحظ ،لكنه يعتمد على الألفاظ المطروحة بالطريق أيضاً وأعني بها الألفاظ البسيطة الشائعة؛ لتحقيق نوع من الرؤيوية العالية للأشياء التي حولنا ، بعين ثاقبة متأملة للماحول ، والتماهي معها والانسجام في تكويناتها ، وكينوناتها محققاً ــــــــ شاعر الهايكو ـــــــــ نوعاً من الإدهاش الجمالي النوعي المختلف عن جمال الأجناس الأدبية الأخرى بتقنية واحترافية ومهارة في توصيف الحدث أو المنظر بألفاظ مألوفة ( جداً ) خالقاً لحظة مشهدية متناقضة تبعث على التأمل العفوي بنسج المشاعر والأحاسيس المتدفقة مكوناً انطباعاً ما حول شيء ما. وتشترط قصيدة الهايكو ( الموسمية ) أي توظيف الموسم أو الوقت الذي يحدث فيه هذا الانطباع فضلاً محتويات هذه اللحظة وغالباً ما نجد في قصيدة الهايكو ذكراً للحيوانات وباقي عناصر الطبيعة التي تتبع بالنتيجة هذا الموقف أو ذاك ....
إذن هي قصيدة تجريبية تؤطر ما يحدث لا ما حدث ومن هنا ومن الناحية الأسلوبية نجد الفعل المضارع حاضراً فيها ؛ لما يحتويه من ديمومة واستمرارية على أن هذه الشروط في المجمل هي شروط كبرى ؛ للتفريق بينها وبين القصة القصيرة جداً التي ربما قد تشترك معها في لحظة الإدهاش في الجملة الأخيرة. إن كاتب السطور يختلف تماماً مع من يصف قصيدة الهايكو بـــــــــ (التوقيعة الشعرية) وذلك؛ لأن التسمية تحيلنا إلى (أدب التوقيعات ) الذي شاع في العصر العباسي ، وهو سطور مقتضبة مكثفة يكتبها الخليفة أو الوالي أو القاضي أو القائد إجابة على كتاب يرد إليه وهو تهميش بالمعنى الإداري الحالي....
إن وصول قصيدة الهايكو إلى العالم العربي عبر الترجمات الوسيطة وليس عن طريق الترجمة من اليابانية المباشرة ، لم يمنع من ظهور قصيدة هايكو عربية بدأت تتبلور وتأخذ مكانتها في النوادي الأدبية ولها كتابها وقراؤها ومن رواد كتابتها الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة والشاعر المغربي سامح درويش والشاعر العراقي عذاب الركابي ولطفي شفيق مهدي والشاعرة العراقية بلقيس خالد على سبيل المثال لا الحصر وكذلك برز مترجمون للهايكو كالشاعر والمترجم العراقي عبد الكريم كاصد. في عام 2019 م تم إشهار أول نادٍ عربي للهايكو في المغرب وهو ( هايكو موروكو ) الذي يترأسه الشاعر سامح درويش ، وهذا النادي المغربي سيستضيف عام 2021م جمعية الهايكو العالمية التي مقرها اليابان ؛ ليتجمع شعراء هايكو من أنحاء العالم ؛ لإحياء فعاليات
(هايكوية) ولعل ذلك إن تم سيكون حدثاً أدبياً مهماً إنموذج من شعر الهايكو العراقي :
بلقيس خالد :
الحجرُ حكاياته بيوت / يروي أهلها سرَّهُ الدفين / في زينة النساء.
كم من الحكايا / في ذاكرةِ ضفةٍ/ تركها النهر
إستكانات الشاي / لا حكايات لها / حين تروي عطش الأحبة