اخر الاخبار

لا أحد ينكر أن  قصائد مديح الساسة في التاريخ الشعري القديم رسخت ثقافة (الاستجداء) المادي والتسول المعنوي ، ومد اليد إلى السياسي ليبارك المنجز الشعري بعطائه المادي أو إصغائه البارد للقصيدة أو تصفيقه لشاعرها ، حتى غدا ذلك ( نسقا ثقافيا ) لا يمكن تجاوزه في الأعراف الأدبية السائدة من أجل اكتمال العملية الشعرية ، التــــــي تنهض وفق هذا (النسق المهيمن ) على المحاور الاتية : مرسل متسول ( الشاعر ) يرسل القصيدة ( الرسالة /الوسيلة الثقافية للتسول) إلى مرسل إليه (السياسي / صاحب المال) الذي يبدو بمشاركته عبر الفعاليات السابقة  وكأنه يكمل تلك العملية، التي تبدو من جانب الشاعر ناقصة إن لم تنل (مباركة) السياسي ومشاركته ، علما أن هذا الطرف الأخير لا شان له أبدا بأي من جوانب العملية الإبداعية التي أنتجت القصيدة مابين تجربة الشاعر ومشاعره وورقة النص ..ولم يكن السياسي سوى صنف من أصناف المتلقين للشعر ..ممن يأتون متأخرين الى تلقي النص ..

اليوم تقلصت مساحة المديح .. بل تكاد تغيب تماما عن المشهد الشعري العربي الحداثي ..وما  بعد  ا لحداثي لكن ثقافة (الاستجداء) الماضية ما يزال صداها يتردد في فضاء ذلك المشهد على الرغم من ادعائه تبني الحداثة الشعرية ... فما زلنا نقيم الفعاليات الأدبية ولا نفتتحها إلا بحضور الطرف الثالث (المتلقي السياسي).. وما زلنا ندعوه لحضور جلساتنا الأدبية ونؤكد على حضوره ببطاقة دعوة خاصة، ولافتة ترحب به مسبقا، وبرعايته التي نفترضها ونفرضها ،  ونهتم به أكثر من اهتمامنا بالمتلقي المستقل ،  المسكين ، المتواضع الذي قد يأتي من غير دعوة أو توسل به كما قد نفعل مع المتلقي السياسي ..ومازلنا نحزن إن لم يحضر هذا الأخير .. ونغضب .. ونشعر بإحباط وبان ثمة نقصا قد نال قصائدنا .. بل نتصور أننا قد فشلنا في مشاريعنا الأدبية إن لم يمد إلينا يد العون ولو بزيارة قصيرة إلى محاضراتنا الثقافية أو مهرجاناتنا الشعرية  ..

كان الشعراء في الماضي البعيد هم من يذهبون بدلال إلى مجلس السياسي لقراءة قصائدهم التي غالبا ما تكون مديحا لمستضيفهم .. ويخرجون من خيمته أو قصره برفقة الدنانير والدراهم أما اليوم.. فالشاعر هو من يوجه الدعوة إلى المتلقي السياسي .. وينتظر حضوره قلقا من غيابه .. وعادة لا يأتي هذا المتلقي .. ومع ذلك نصر على انتظاره المجاني.. ونكرر دعوته .. ونوجه إليه رسائل عتب شفافة على غيابه .. حتى نصل إلى تلك الدرجة التي تماثل ثقافة الاستجداء القديمة التي تتغيا التواصل مع المتلقي السياسي .. مع أن الأمر غير ملزم مطلقا لان لكل من الشاعر والسياسي مشروعه الخاص .. وكل منهما يمكن أن يكتمل وحده و يعيش بعيدا عن الآخر.. من دون أن يفشل .. أو يشعر بالنقص ..

فأي حداثة هذه التي نزعم تبنيها في قصائدنا ونحن من الجاهليين في ثقافة ترويج مشاريعنا الأدبية التي  نحسب أنها تتعثر إن لم تتوكأ على كتف المتلقي السياسي ..

وأي حداثة هذه التي ننحت في ظلها صور القصيدة من الحجر الكريم لثقافتنا الغنية .. ثم نكسر تلك الصور إحباطا إن لم يلتقطها المتلقي لانشغاله بمشروعه السياسي .. وذلك أمر لا يحتم عليه مسؤولية الالتفات إلى النشاطات الأدبية لأنها – في الأصل - قائمة بذاتها وبفنونها ومكتملة بإبداعاتها ..ولا شأن للسياسة مطلقا بتحقيق ذلك الاكتمال ..مثلما لا شان للقصيدة بوصفها – فنا وبناء جماليا وانفعاليا – بأي مؤسسة سياسية بوصفها- المؤسسة -  إدارة عقلانية وأساليب دبلوماسية بعيدة عن الانفعال والوجدان ..والحبيب الاول..والخيل والليل..

فان التفت السياسي إلى تلك النشاطات الأدبية – وذلك من حقه - فمن جهة كونه متلقيا بصفته الإنسانية العادية التي قد تتذوق الأدب .. وليس بصفته السياسية الخاصة .. والصفة الأولى هي التي يشترك فيها مع جمهور المتلقين على اختلاف أصنافهم وليس ملزما باستحضار صفته الثانية بناء على توقعات الأدباء ممن مازالوا يصرون على ضرورة إقامة العلاقة على طريقة ( المتنبي وسيف الدولة ) بين الشاعر والمتلقي السياسي ..فقصائدنا طعمها جميل جدا ..وليست بحاجة الى ملح السياسي او مطبخه او ثريده..