اخر الاخبار

ليس من السهل نقل تجربة حرب العصابات او ما يسمى الكفاح المسلح الى السرد الروائي الا اذا كان السارد جزءا من تلك المجموعة وقد عايش الظروف الصعبة لكي يقوم ببناء الشخصيات والاحداث واقعيا وبمقدرته الابداعية يخلق من هذه الشخصيات الواقعية شخصيات روائية.

رواية (حصار العنكبوت) للروائي “كريم كطافة” الصادرة من دار الفارابي – بيروت الطبعة الثانية سنة الاصدار 2022 وتقع في 380 صفحة من القطع المتوسط وتحتوي على 39 مقطعا. نجحت في نقل هذه التجربة الفريدة لتكون رواية جيدة وناضجة وتستحق الاهتمام.

تتناول الرواية الحياة اليومية للانصار وهم شيوعيون صعدوا الى جبال كردستان القاسية لمقارعة نظام صدام، استطاع الروائي ان يجعل شخصيات روايته اصدقاء للمتلقي بما يملكون من انسانية واستعداد للتضحية والفداء وعدم الاستسلام، الرواية تجعلنا نتخيل شكل الشخصيات وملامحهم وضحكاتهم، خوفهم، ضعفهم، شجاعتهم، وحيرتهم وهم يرون الحرب تتوقف وصدام لم يسقط كما كان يتوقع الحزب الشيوعي، الجانب العسكري وحتى السياسيي على الرغم من ان جميع الشخصيات شيوعية وتكاد الرواية ان تنزلق لتكون تسجيلية لكن مرونة السرد عند كريم كطافة وتفاصيل الاحداث ومشاعر الشخصيات هي من تلعب في مشاعر المتلقي، شباب ورجال ينذرون انفسهم طوعا لمحاربة الظلم والثأر لرفاقهم الذين اعدمهم النظام، هؤلاء الذين يذهبون الى الموت المحتمل يتركون مدنهم وحياتهم الخاصة الناعمة المريحة ويأتون الى الجبل لمواجهة الموت والحياة القاسية، انها تجربة انسانية لا يقدر عليها كل انسان الا من يملك الايمان بالافكار والمبادئ، وانا اقرأ هذه الرواية تذكرت روايات همنغواي عن الحروب (لمن تقرع الاجراس) و(وداعا للسلاح) والحالات الانسانية التي تجسدت في تلك الروايتين، وفي هذه الرواية شحنة انسانية منذ الاهداء والاستهلال تجعلنا نستمر بالقراءة حتى النهاية” فؤاد يلدا...ما زلت الجرح الناتئ في روحي” صعوبة الموقف وعدم دقة التقدير هي ما يرفع البناء الدرامي لللاحداث وانعكاسها على الشحصيات لنر كيف يقدم الروائي رفاقه في حركة الانصار “لم نكن مرتزقة هبوا للقتال طمعا في مال كما لم نكن جنودا غلبوا على أمرهم وتم سوقهم عنوة. كنا شبانا مهووسين بحلم يلوح لنا في آخر النفق الطويل كأنه الحقيقة، حلم مراوغ يبتعد كلما اقتربنا.منه من كان يؤمن حتى وهو في لجة التجربة، أن الكتب قادرة على تغيير العالم. واللوحة تهزم القبح.. والموسيقى تجترح المعجزات...كان بيننا حالمون متقنعون بأقنعة فلاسفة ومنظرون لمدن فاضلة. مثلما التحق بنا جنود هربوا من حروب ليست حروبهم وفلاحون امتزج إخلاصهم للرفقة بشرف العشيرة وقيمها..وأمهات وزوجات وأخوات وآباء وأطفال جرى تهجيرهم الى معاقلنا الجبلية بجريرة ذوي القربى.

“ألى كل اولئك الرجال والنساء والأطفال الذين قاسمتهم تضاريس تلك الأيام أهدي هذا الذي لا أدري ما سيكون” هل رأيتهم أجمل من هذا التعريف والاهداء؟

اذا كان زمن الرواية يبدأ عند تاريخ وقف الحرب العراقية الايرانية 1988 والمكان هو جبل (كاره) فالاسلوب الذي استخدمه الروائي فيه مواصفات تقنية وفنية تنتقل بالمتلقي زمانيا ومكانيا، وفي السرد ما يشبه السيناريو السينمائي وخطوط الدراما التي تعطي دلالات متعددة لكل الشخصيات.

السارد على الرغم من وجوده داخل المشهد السردي لكنه يختار أن يكون متباعدا ليسمح للشخصيات بالتعبير عن نفسها، كأنه يحمل كاميرا وقدرة اخراجية على توزيع الأدوار ويعلق عليها ويترك بعفوية بناء المشهد السردي. وتتلمس بأن الروائي يترك ثغرات أو ثقوبا سردية تتولى الشخصيات ردمها عن طريق الاسترجاع.

وكذلك المتلقي عليه استيعاب تكسير الزمن بالرواية

معاناة المرأة الانصارية

تتميز تجربة (الانصار) اللجوء للكفاح المسلح للحزب الشيوعي في جبال كردستان ثمانينيات القرن الماضي بإشتراك المرأة في هذه التجربة القاسية.

وعلى الرغم من ان الروائي كريم كطافة لم يركز كثيرا على الجزئيات لكن الواقعية الصارخة التي عبر عنها السارد في تجسيد اعماق الشخصيات وتدوين تفاصيل الاكثر دقة عن الصعوبات التي واجهت الشخصيات النسائية وهن يحاولن الهروب من الحصار والوصول الى الحدود التركية تغطي الوضع الاستثنائي الصعب الذي عاشته المرأة والتي لا يمكن التفكير بهذا الاتجاه!

لنرى كيف يصف السارد النسوة (أختفت النضارة من وجوه كل النسوة بما فيهن تلك الجميلات، قناع موحد حل محل الوجوه التي كانت. قناعاً متماهياً مع ملامح وجه الشيخ الثمانيني (مام عجلان) بأخاديده وأوهاده الكثيرة. جباه النساء محددة والخدود ناشفة والعيون غائرة والحركة بطيئة)، من السذاجة ان نتخيل إن الجنس يمكن ان يمارس في كل الظروف والاجواء، مجاميع من الرجال والنساء يتعرضون يوميا الى الموت ويفتقرون الى ابسط وسائل المعيشة (الطعام والماء للشرب والسباحة والمرافق الصحية) فضلا عن الخوف واحتمال فقدان الحياة هل يمكن ان يتجه التفكير بشيء مما يقوله البعض من تصورات! وقدم الروائي نماذج متنوعة من النساء فمنهن الانصاريات مثل النصيرة (وضحة) زوجة النصير (مناف) لنتوقف كيف يسرق الانصار المتزوجين فرصة الخلوة الزوجية” لا يوجد قفل لأي باب في هذه القاعدة...-مناف الله يخليك لا تستعجل.قالوا إنهم سيخصصون لنا غرفة في المقر (حبيبتي احنا راح نتباوس وبس، وآني راح أصدقك؟)..زوجان حرما من حياتهما الزوجية منذ أيامها الاولى.دخلا في قبلة طويلة بطول الغياب الذي كان، ورويدا رويدا أخذتهما القبل.. شخصية وضحة (شيوعية) من الانصار التي ترفض ان تكون ضمن العوائل التي يتم ترحيلهم الى الحدود التركية بل تصر على التعامل معها كأي شخص ضمن حركة الانصار والحوار بينها وبين رجال الانصار فيه كل الاحترام ويعدونها ابنتهم او اختهم. فهناك شخصيات نسائية وعوائل اجبرهم النظام للالتحاق بإزواجهم بالجبل ليس للم الشمل بل للضغط على ازواجهم لتسليم انفسهم للنظام بحجة وجود عفو عنهم او لزيادة الصعوبة التي اصلا يعاني منها الرجال الانصار وقسم منهم لا يتحملها فكيف الحال مع النساء والاطفال لا سيما وهم لا يؤمنون بمبررات وجودهم في هذه الامكنة القاسية طبيعيا وخطيرة على حياتهم! “القائد العسكري سهراب المقدام أمام الرجال أعجزهم جميعا وغير قادر على الجام عناد زوجته (نازين) في تحريض النساء على رفض الأمر”ص267، اما شخصية (شيرين) الايزيدية فهي ليست من الانصار لكن زوجها (مراد) من الانصار وهي التي شجعته للالتحاق بالانصار للتخلص من خموله وكسله، لكن مراد شخصيته غير مستقرة وعندما يسمع بزوجته شيرين حامل يتهمها بالزنا لأنه قد راجع الطبيب وقال له انك السبب بعدم الانجاب لذلك (طعن بشرفها ومسح الأرض بكرامتها أمام الجميع..مراد لم يعد لها كما كان..وشيرين جميلة جدا..حتى أن مسؤول المنظمة الحزبية، كان يسميها (البزونة الشرسة)..استدارة وجهها الأبيض المخمر وعينيها الخضراوين اللاصفتين تجعلان ملامحها أقرب الى قطة جميلة، لكنها شرسة. كثيرا ما يعبر عن حسرته أمام رفاقه: هذولة الشيوعيين اشكد محظوظين بالنسوان. وهناك شخصية “روزا الجميلة” الايزيدية بنت الشهيد كاكا الشاب المسيحي حسام الصغير فهي نوع آخر من الشخصيات النسائية في الرواية، والتي تهرب هي وشقيقتها الصغيرة (حياة) مع حسام الصغير على امل الخروج الى تركيا والهجرة والزواج! وحينما تشعر الام بالقلق عن ابنتيها يدور هذا الحوار بين “ام روزا “و”أم أوزاد “ التي لا تعرف عن ابنها ازاد اين هو وقد استبقته الاستخبارات في سجونها لكن تطمئن ام روزا تقول لها : (لا تنسين حسان نصير وشيوعي راح يحافظ عليهن/ تجيبها ام روزا قائلة (-أي نعم أثق بالشيوعيين. دشوفي هذولة الشباب.كل واحد عنده أم وأب ما يعرفون عنه شي من سنين” اما الشخصيات النسائية التي يتم ضخها في الرواية فعلاقتها بالانصار جزءا من الماضي (الجميل) مثل (جونجي) الفتاة المجرية، وكذلك خيالات الرسام (فؤاد) “القادم إلى الجبل من أجمل مدن العالم، لم تجعله شباك العنكبوت يحلم بتلك المدينة التي كأنها خلقت للفرح والجمال فلورنسا..لم يعد بقادر على استرجاع ذكرياته المخملية..و صبايا البورتريهات التي كان يرسمها..أجساد النساء.ولهاث أيام وليالي المتع الباذخة..لم ير أمامه الآن سوى البصرة تلوح من على حافة الافق، وعندما يحاصر من قبل الجيش يفضل الانتحار على ان يسلم نفسه! وشخصية حمدان رفيق فؤاد فهو بخياله يتخيل النساء مرتكزا على ذكرياته القديمة مع حبيبته الطالبة الموصلية.

الشخصيات في رواية (حصار العنكبوت) تتمرد على السارد – كما يقول جان ديفاسا- وتفعل ما يناسبها وليس ما يحلو للرواية، حاول كريم كطافة في ظل غياب التوثيق الحزبي الرسمي لحركة الانصار ان يغير العيون التي ترى الاشياء والاحداث والشخصسات بشكل مشوه، فكان السرد هو حكاية الحكاية واستخدم تقنيات سينمائية في السرد من خلال شخصية (حيدر كامرة): لقطة متوسطة- مئات من البشر يهربون إلى اتجاهات مختلفة. يتسلقون. ينحدرون. الأشخاص المتسلقون أنفسهم يعودون للأنحدار من جديد. حركات مشدوهة حائرة بين الصعود والنزول. ينبثق صوت المذياع وهو يكرر بيان السبي العام بلا توقف..أوامر عسكرية يتناقلها جهاز المورس بين الطيارين. تلح على لملمة أطراف القطيع الهائج”، لعل مهارة الروائي في براعة السرد تفوق كل فنون الخيال فهو يشبه شخصية نجاتي في الرواية (من مهارات نجاتي المحببة للأنصار أنه حكواتي من الطراز الممتاز، باستطاعته أن يحول أي شيء مهما كان تافها وصغيرا إلى حكاية مدهشة وممتعة”.

عرض مقالات: