اخر الاخبار

د.جمال العتّابي

ها أنت ترحل رحيلك الأبدي يا عاشق الماء والنخل، أيها المنطلق نحو سماء الأبدية، فقدناك ياحسب الشيخ جعفر، بعد أن كنت منيراً لأمسيات الشعر والأدب، بأحاديثك، ومنطقك العفوي، وتجربتك الغنية، كنت حر العواطف، ساخن الود، أنيساً صادقاً، ولئن فقدك الكثير من أصدقائك ومعارفك، وقرائك، فأن تراثك الشعري الأصيل، وأفكارك وتجاربك، ورياداتك الجريئة باقية، راسخة، تطل علينا شامخة متوهجة عنيفة في قصائدك.

وعبر حياة ملأى بالإجتهاد والمثابرة، وجد حسب الشيخ جعفر منهجه، وطرازه الشعري الخاص، هذا الشاعر الذي ولد في العمارة، وإستقر مقامه في بغداد، حمل إرادة الإنسان الطيب، المتحدي للجمود والتقليد، وكانت رحلة الثمانين عاماً حافلة بخفقات ذلك القلب الرقيق، الذي أحب الناس، وعانى من أجلهم حتى توقف وجف الخفق.

حسب شاعر مجدد، لذا يقف في طليعة الشعراء العرب المجددين، وشعره يحظى بإهتمام النقاد، والدارسين، والقراء، لما فيه من حداثة، فإذا كانت هاتين الخاصيتين هما أبرز خصائص سلوك وشعر الشيخ جعفر، فإن الخاصية الأكثر عمقاً هي ان الشاعر أسهم في إثراء حركة الشعر العربي، عبر تطوير القصيدة المدوّرة، إمتداداً للشعر العربي في أغلب مراحله. وتكشف نصوصه تواصله الدائم مع المنجز الإنساني، وتأثره بالمنجز الشعري العالمي الحديث.

وإذا كان الشعر بالنسبة لحسب زادهُ في رحلته العميقة المتعبة، فأن فرادة صوته، وإنفتاحه على ميادين المعرفة والفنون، وضع حسب في مرتبة الشعراء الكبار بعد الشاعر السياب.

لم يفرّط الشيخ جعفر بمنزلته الشعرية، والإنسانية، ولم يتنازل عن الحقيقة يوماً على حساب الشعر، والحب، والإنسان، على الرغم من محاولات النيل من تجربته، وتشويه تاريخه الشخصي، هذه المحاولات من (البعض)، لا تعرف حجم المعاناة التي عاشها الشاعر، فإختار البديل الاصعب في بلد مجاور، ثم عاد إلى العزلة مكتفياً بطعمه الخاص شعراً وسلوكاً. فكان يخفي في تجاويف وجهه، الوحدة، والحزن، والغربة. ذلك ان حسب بكل براءته، يشعر  دائماً بالخوف، ثمة كوابيس تلاحقه، فأتعب نفسه في إختراق المحاصرة، لم يجد سبيلاً لذلك غير الشعر، بمقدوره أن يقوله بلا تردد، لقد إكتشف ان الجنس والمرأة، يمكن أن يكونا جزءاً من القضية، والحرب التي ينبغي  أن يشنها من أجل تحرر نفسه، وتحرر المرأة، تتوجه لإقتلاع جذور التخلخل الإجتماعي، و نحو الظلام، والقمع، فكانت قصائده جريئة ومباشرة في هذا الميدان، إخترق بها الحصار، متناسياً الجراح التي في أعماقه :

قلت: خذني وردة تبتل في ليلة صيف

نهراً أهوج كالثور، إخترقني مثل سيف

جسدي ظبي جريح

وسريري ضائع كالبادية،

فخذ السرّة، وفَخذي صارية

جسّد حسب الجوع الجنسي الذي يتآكل أعماق الناس، رغم إدعائهم العفّة، والإنحراف الذي يتولد في كل مجتمع مغلق، كما ان شعر الشيخ جعفر قد إتسم بالأصالة والصدق، والإخلاص، وخرج على قيود التكلف، وإختط لنفسه مسالك جديدة في صميم حياة العصر. ومن دون شك، فأن دراسته في الإتحاد السوفيتي فتحت الطريق أمامه للتعرف على المذاهب الفلسفية والإجتماعية العالمية، فأثّرت في شعره، وكشفت له عالماً جديداً متحركاً.

لذلك لم يكتب حسب الشعر للوطن وحده، بل تجاوزه إلى أفق إنساني، لقد وظف حياته، وشعره لأنبل الغايات، فكان الشاعر المبتكر حقاً.

مشهد الحضور .. تمثّل نثري لرحلة «الطائر الخشبي»

 ********************************************

ريسان الخزعلي

أيها “الطائر ُ الخشبي”

لم تَعُد لجناحيك َ فسحة ٌ في السماء. سيدة ُ سومريّة ٌ تغتسل ُ

الآن َبمياه ِ الأهوار ِ أصابعها تُمشّط ُ شعلة َ السواد ِ، والقمر ُ

الجنوبي ُّ مستأنس ٌ بهذا العُري الجديد. السيدة ُ تجمع ُ ضفائرها

وتدسّها في البريد ِ السياسي الذي كان َ بين َ جذوع ِ النخل ِ أو في

الجذور. ترسلها إليك َ مع َ خمرة ِ / سيدوري / لعلّك َ تجد ُ النشوة َ

الأزلية َ بهبوط ٍ / أورِفي ٍّ / جديد.

في المناقع ِ ينبت ُ زهر ٌ جميل ٌ بخضرته ِ ازدهت ِ الطيور ُ، تنقره ُ

وتُعلّي قريبا ً من شجْرة ٍ هي خفقة الروح. إن َّ كفّيَّ أبيك َ التي

شققتها المناجل ُ، والخدوش ُ التي عليها هي َ الآن َ أكثر ُ بياضا ً

من فضّة ِ العرْس ِ، يرفعها في الحلْم ِ عاليا ً كي تقطف َ التمر َ

من  / نخلة ِ الله ِ / المُعلّقة ِ بين َ قلبك َ والسماء.

إن َّ / ابن َ جودة َ / الآن َ يسكن ُ مقبرة ً خلف َ بغداد َ يزور ُ

الحالمين َ ويسأل ُ عن الرفاق ِ معتذرا ً عن حضور ِ الوليمة.

أيها الطائر ُ المرمري.

مررنا عبر َ حائط ٍ قديم ٍ، وجدنا وجه َ / لينا / قد تشظّى في

المرايا، ولم تعُد تلك َ الصبيّة ُ التي سألت ْ عن خدوش ِ قلبك َ،

وجدناها وحيدة ً آنستها الزوبعة ُ الثلجيّة.

/ جنان ُ / ماعاد َ أبو نؤاس ٍ يراها. وهذا / رماد ُ الدرويش ِ / بخور ُ

العرائس ِ كل َّ ليلة ٍ، والراقصة  ُ لا تعرف ُ القفز َ في ساحة ِ العرْض ِ.

لم نعُد ْ منتشرين َ في المقاهي، ولم نشرب ِ الشاي َ فيها، وفي وجهك َ

يموج ُ الصمت ُ وطولك َ طود ٌ فرعوني ٌّ ترصده ُ العيون ُ عن بعد،

وبعزلة ٍ بين َ يديك َ / كران ُ البور ِ / يعزف ُ مرثيّة َ الخسارات، قديمها

وجديدها.

لا نور َ يقود ُ إلى / أعمدة ِ سمرقند َ / وأنت َ تعدّها واحدا ً واحدا ً.. كيف َ

رأيت..؟

لا / حانة َ دائريّة ً / ولا صالة َ استراحة ٍ، سوى أدغال ٍ في ممر ٍ قديم ٍ،

توقظها صفّارة ُ الحارس ِ الليلي. وهذا تمثال ُ الشاعر ِالواهن ِ في ركن ٍ

منسي ٍّ من الحديقة ِ، يشبهُك َ ولا يراك َ.. يأخذ ُ من كأسك َما تبقّى،

والمجانين ُ كذلك َ يسألون َ الجدار َ.. أين َ المُتأخر ُ الوحيد ُ في الليالي

المقمرة..؟.

لم نر َ / زرقة ً هامسة ً /..، لقد ورثنا الرماد َ وهذا الأنين َ الذي يُحشرج ُ

في الوريد.

زوارق ُ / احفيظ / الذهبيّة  ُ، آخرَ الليل ِ لم يَخف ْ منها حتى الصغارُ،

والأقدام ُ تركل ُ التل َّ تجس ُّ نبض َ القوّة ِ الأولى الخرافيّة ِ، والخنزير ُ

يمرق ُ على مرأى صبي ٍّ  بلا دهشة.

يمر ُّ النهار ُ من دون ِ / توقيع ٍ / ومن دون ِ / إقامة ٍ على الأرض ِ /..،

نحن ُ معلّقون َ  على وسادة ٍ من غيوم ٍ / تواطؤاً مع الزرقة ِ /

 كي نلحق َ الطائر َ الخشبي ، وأنت َ تقرأ ُ / البرق َ احتطابا ً /...

عرض مقالات: