محلة الوردية سميت من قبل أجدادي، من أوائل قاطنيها، بمحلة العجائب والغرائب. كثير من الأحداث تحصل فيها، حتى يومنا هذا، ولا نجد لها تفسيرا، كان أبي يقول إن أرضها مسكونة بالجن والارواح الهائمة لأن بيوتها بنيت بحجارة من أرض بابل حين سمح الوالي العثماني أن تُهدم جنائنها وقصورها واسرارها وتبنى محلة قريب منها على نهر فراتها تيمنا بالماء العذب الذي يغذي عروق بيوتها فكان إسمها الوردية. بيوتها متلاصقة يسمع ساكنوها همس بعض في غرفهم، وأزقتها ضيقة لا تسمح بمرور سيارة ومن يمشي في دروبها يلتقط ما تتحدث به العوائل وما يشغل بالها من مشاكل وهموم وما يتقطر من أفواههم من مفردات الحب والألفة وحتى الخصام. شبابيك البيوت، رئاتها، تطل على الازقة تتنفس بها ما يحمله هواؤها من نسائم باردة ورذاذ أمواج النهر وفي أحيان كثيرة تتسمم بعطن وتفسخ الأزبال والقاذورات في الطرق وأتربة لا تحتاج الا الى نفحة ريح كي تكون ضيوفا ثقيلة على أرضيات وأثاث البيوت القديمة ووجوه أطفالها، تنفذ منها ما تنفثه الباحات والمطابخ من طَعم كلام، عفن ونظيف، وصنوف طبخ تصل حتى خارج المحلة. كان بيتنا القريب من مسجد المحلة يقابل بيت صديقي ماجد، نشأنا سوية، كنا اصدقاءً لا يفارق أحدنا الآخر، أفكارنا وأحلامنا كانت متقاربة ونحن نقف على عتبة الشباب، تخرجنا من الكلية سوية، تزوج قبلي بشهر واحد وأنجب من زوجته بديعة، كانت تربطهما علاقة حب عاصفة في الحياة الجامعية، ثلاثة أبناء ولدان وبنت. كان بيتانا بيتا واحدا نزور بعض بلا حرج وما بين عائلتينا إلا ما حلل الله وما حرّم. في السنة الاولى من الكلية تعرف ماجد في أحد بارات بغداد على الحبيب، أطلق عليه بفكاهته هذا الإسم ويقول متبجحا هو ما يليق به، واصطفاه رفيقا وخلّا أبديا له. كان يقضي كل الليالي معه يأتي في آخر الليل وهو يتعتع من السكر يغني بنبرة ممطوطة، تتقاذفه جدران القسم الداخلي وبيوت الحيدرخانة التي سكناها في السنتين الأخيرتين من الجامعة. بقي هذا الحبيب، ماء الروح، ملازما له حين توظف في احدى دوائر الدولة لا يجالس أحدا الا والحبيب معه حتى أني، مرات عديدة، قلت له ناصحا أن يترك هذا الحبيب فمن غير المعقول أن تقضي حياتك كلها لا يطبق أجفانك الا أنفاس خدره وقد بدأ يستنزف صحتك، كان يجيبني وابتسامة ساخرة على وجهه بأن لا سلوى في هذه الحياة الجاحدة الا مع هذا الرفيق الزلال الرقراق الذي ينسيه همومه واحزانه ويطير رائحة الحروب التي أشعلها القائد المجنون من رأسه ويجعله محلقا في فضاءات خيالاته سابحا في بحور الشعر ليصيد فيها قصائدا ساحرة ، أنساه هذا الحبيب زوجته بديعة وأبناءه الثلاثة. كل يوم يمر كان ماجد تتقطع خيوط عرى علاقته مع أصدقائه وعائلته. يأتي من دائرته يتناول غداءه على عجل وقبل أن تتسلل خفية أصابع الظلام في البيوت يطرق الحبيب الباب عليه، يقضيان الليل سوية يتركان بعض حين يلملم الليل جلبابه وينسل هاربا من طرقات فجر قادم على أبواب الأفق وماجد يأتي مترنحا بين جدران بيوت الزقاق الضيق لا يصل بيته الا بمشقة حتى أنه يقضي وقتا طويلا لا يستدل على ثقب مفتاح باب داره الخشبية وأحيانا يتكوم عند عتبة الدار حتى الصباح. في صباح أحد الايام طرقت بديعة باب داري، كانت ترتجف من القلق ووجهها اكثر شحوبا من فجر لم يغسل وجهه برغوة شمس بعد، شفتاها يابستان..قالت بانفاس متقطعة..

_لم يأت ماجد الى البيت هذه الليلة..لم يتعود المبيت خارج البيت..خرج حين طرق الحبيب الباب كعادته كل مساء..لكم كرهت طرقات هذا الحبيب..بدأت لا أطيق سماع الطرق على الابواب..

حاولت أن أطفأ بعضا من حرقتها، كلمتها بهدوء كي أبث الطمأنينة في روحها اللائبة..

_لا خوف عليه مع الحبيب، علاقة تمتد أكثر من عقدين من السنين، ربما طالت السهرة حتى الصباح..السُكْر عند ماجد لا وقت محدد له، سيأتي، لا بيت آخر عنده..

_ولكن ماذا أعمل إن لم يأت..؟

أطلقت ضحكة قصيرة فما زال النعاس يخيط طرفي فمي..

_أختي بديعة ، عودي الى أبنائك، ما أن تشرق الشمس حتى يشرق ماجد في بيتك..

استدارت بديعة، لم يطفئ كلامي هجير لوعتها، كانت شفتاها تتمتم بكلام غير مفهوم يحشر في فمها حشرا من حيرة داخلية رعناء تركل جنبات نفسها.مضت الأيام وماجد لم يعد الى بيته، ذهبنا أنا وبديعة الى مراكز الشرطة والمستشفيات ولكن لا أثر له، بعد انقضاء أكثر من اسبوع وقفت أمام بيتي كالمسحورة، عيناها شاردتان كأنهما تطاردان فكرة تراها ماثلة أمامها ولكنها لا تقوى على تصديقها..

_أتعلم يا أخي مهند، أنا أشعر أن ماجدا موجود في غرفته، وفي باحة الدار، أناديه ولكنه لا يجيبني أرى خياله ولكن حالما اقترب منه يختفي ، حتى ما نحتاجه للبيت من أكل وشرب أجده يوميا وراء باب الدار، أنا على يقين هو من أحضرهما لأنه يعرف ما نحب وما نكره وما نطبخه على الدوام، حتى الدواء الذي نحتاجه أنا وأبنائي نجده عند الباب قبل أن نطلبه.أنا منذهلة. حقيقة الأب ليس سلة غذاء إنه خيمة، طريق يرسمه لتمضي العائلة فيه. إن بقيت الامور هكذا سأصاب بالجنون..

كل ما ذكرته بديعة أمامي أحلته الى الهذيان المحموم، الحمى حين تفتك بالجسد يطير من هولها العقل. المجانين يرون اشياء لا نراها ولو رأيناها، وهذا مستحيل، لأصيب الجميع بالهستيريا والفصام. مضت الأعوام من دون أن يعود ماجد ولم تطرق بديعة باب داري يوما ولم أر بابهم تُفتح الا من خلال إبنهم البكر زيدون حين يذهب الى الجامعة ويعود منها. طرقنا بابهم أنا وزوجتي مرات عدة، طيلة هذه السنين، لكن أحدا منهم لم يفتحه . كنت أسأل زيدون حين يخرج من البيت عن حالهم، كان يقول لي إنهم بخير ولا يحتاجون شيئا ووالدته بديعة وأخوه وأخته في تمام الصحة والعافية، لم أزد فضولي عن هذه الاسئلة وكنت أتجنب في مرات كثيرة سؤاله عن والده ماجد ، كان يتهرب في الإجابة حتى أني أخذت قرارا أن لا أذكر إسمه أمام هذه العائلة ما حييت وأكتفي بما يصلني من همس بعض الاصدقاء الذين يحلفون بأغلظ الايمان بأنهم دائما ما يرون ماجدا بصحبة الحبيب ما بعد انتصاف الليالي ولكن لا يجرؤ أحد أن يقترب من خياله يُرسم على جدران البيوت في الزقاق وينفذ الى بيته من دون أن يفتح الباب، كنت أضحك ملء فمي على هذه النكتة السمجة، كما كنت أفعل مع ماجد وهو يجعل من أبسط الكلام والأحداث نكاتا تجعلني احفر في الارض من الضحك..

في تسعينيات القرن الماضي وفي واحدة من هزائم القائد المجنون وهو يقارع العالم كله بقرون من طين، ثارت المدن عليه وحمل الشباب السلاح وأسقطوا سلطاته وقطّعوا أذنابه في كثير من المحافظات. أراد القائد أن يزرع نصرا مزيفا في الداخل يخفف من هزيمته المخزية في حرب الخارج، أرسل قطعان ذئابه يفتشون عن الشباب الذين حملوا السلاح ضده ، فتشوا البيوت بيتا بيتا وزقاقا زقاقا ومن حسن الصدف أن لا ولد عندي وكل ما جنيته من حصاد زواجي أربع بنات، كشر الضابط في وجهي لأنه لم يحصل على صيد ذَكر في بيتي ، توجه مع جنوده الى بيت ماجد، طرق الباب بعنف عدة مرات وحين لم يُفتح ركله بقوة بقدمه فتخلعت ظلفتاه الخشبيتان..كانت بديعة في غرفتها تستر بجناحيها المهترئين أولادها الثلاثة، وقف الضابط أمامها وعيناه لا تفارقان زيدون..سحبه من ياخة دشداشته بقوة، بدا زيدون كعصفور هزيل لا يقوى على التقاط أنفاسه..وقفت بديعة أمام الضابط وهي تلهج بالآيات القرآنية وعيناها تكادان أن تخرجا من محجريهما، قال الضابط وهو يقرب زيدون من وجهه..

_ما إسمك، وأين تعمل..؟

_إسمي زيدون وانا طالب في الكلية..

_إعطني هويتك..

أجابت بديعة بفم جاف ولسان متخشب..

_كل أوراقنا عند زوجي..

_واين هو زوجك..؟

كانت تتلفت حول نفسها ، تمنت في تلك اللحظة أن يتحول خياله الذي تراه أمامها في البيت ليقف منتصبا أمام هذا الضابط الذئب رجلا لرجل..

أجابت بانكسار..

_هو ليس موجودا.لكنه سيأتي..سيظهر بيننا فجاة..

ضحك الضابط بإستهتار..

_موجود، سيأتي، سيظهر، هل هذه حزورة. أكيد حمل السلاح ضد السلطة وهو الآن هارب من وجه العدالة..

قالت نائحة من دون أن يخرج من عينيها دمعا..

_لا يا سيدي، زوجي مسالم ، لا صديق له الا الحبيب ، هو موجود بيننا وأنا أراه..

تلفتت في الغرفة باحثة عنه فاردة يديها عسى أن تمسك خيوط ظلاله..صرخت برعب..

_هذا هو، ذاك ، ماجد تعال أنا بي حاجة اليك ، أنقذني وانقذ إبنك زيدون من هذه المصيبة..ماجد أنا على يقين أنك تسمعني..

هز الضابط رأسه وارتسمت ابتسامة ساخرة على وجهه وأحكم إمساكا بزيدون من رقبته وقد إزرّق وجهه من ضغط قبضته..

_لدي أوامر بالقاء القبض على الجميع رجالا ونساء، لكني لن أعتقل مجنونة ، يكفي إبنك هذا..

جر الضابط زيدون بعنف كحمل وديع، خرجوا مسرعين من الغرفة وهم يطعنون الأرض ببساطيلهم وسط صراخ الولد الاوسط والبنت الصغيرة ونواح بديعة الثكلى وقد مزق صوتها المجروح صمت السماء..                    

مضت ما يقرب من ثلاثين عاما لم أر بابهم تفتح في يوم من الأيام، ما رسّخ يقيني أن ماجدا موجود في البيت عدم حاجتهم يوما الى غذاء أو دواء، كان صمت بيتهم كصمت المقابر الموحشة لا يقطّع سكونه الملغوم سوى بكاء وحشرجات بديعة وهي تخربش وجه السماء الأسود الجهم بصدى كلام بعيد ينبعث من أعماق روح مهشمة، تأوهات بقايا عوالم منسية، لا تطرقوا الابواب، لا تطرقوا الابواب، يمتص كلامها شراهة فم ليل سرمدي لا يزول..

 كنت أقف، كل يوم، أمام باب بيتي مشتريا الفواكه والخضر من الباعة المتجولين الذين يتقاطرون بالعشرات يوميا في الازقة وهم يفزعون حتى الموتى بصراخهم واصواتهم الجشة، يطرقون أبواب البيوت ومنها بيت ماجد لا يصلني من رد سوى أنين بديعة وتكسر الخوف المعتق في صدرها وبصوتها الواهن، الذي شاخ قبل شيخوختها وتقطّعت حروف كلماته من فرط انتظار الزوج والولد ومن خلف الباب الذي تخلخلت خشباته وتهزعت من كثر الطرق، تُخبر البائع بأنهم لا يريدون شيئا وترجوه أن لا يطرق الباب ثانية، وفي تلك اللحظة أسترقُ السمع لوقع أقدام كبيرة مسرعة صوب سطح الدار للولد والبنت اللذين أصبحا منذ سنين رجلا في العقد الرابع وامرأة في نهايات العقد الثالث..

في صباح خريفي رائق فتحت باب داري، فقد إعتدت طيلة حياتي أن أبكر في النهوض والغبش يداعب الوجوه ويبعث قشعريرة في الجسد لأرى الخطى المنقوشة على جسد الزقاق المترب عسى أن أفرزن أقدام ماجد الصغيرة الضالة، إنتبهت الى بيت ماجد، كانت واجهته بلا باب، إرتعبت، أين ذهب هذا الباب الذي لم يفتح منذ أكثر من ثلاثين عاما..؟ قادتني قدماي الى دخول هذا البيت المهجور الذي نسيت تفاصيله، ما أفزعني أكثر أن غرف البيت والمطبخ والحمام بلا أبواب خشبية، ناديت بأعلى صوتي على بديعة، على الولد الرجل، على البنت المرأة، اللذين لم أرهما منذ عقود. أجابتني الجدران وبطون الغرف والدهاليز المعتمة بصدى صوتي، نظرت في فراغ العتمة والزوايا وليس من أثر وكأن هذا البيت مهجوراً منذ قرون ، إرتقيت سلم البيت الى السطح، كانت أرضيته الحجرية المتربة مزدحمة بطبع الأقدام الفزعة الوجلة من طرقات الباب، تنبهت الى السماء الزرقاء الصافية لمحت بعيدا ثلاث نقاط تخيلت أنها بجعة بيضاء كبيرة ووراءها طائران أبيضان نشيطان منطلقين، بلا تردد، الى أعالي السماء السابعة المجهولة. تبادر الى ذهني، لا أعلم لماذا.. إن هروب العاجز والنفاذ بجلده طريقا وحيدا لخلاصه. ربما ذهبت بديعة وولدها الرجل وبنتها المرأة، وأنا غير متيقن من حقيقتهم، الى حيث قد لا يجدون هناك من يطرق الباب عليهم ويدفع بهم نحو الجنون والموت.. 

عرض مقالات: