اخر الاخبار

كنت قد أشرت في أكثر من دراسة إلى أن منطق السببية يتحكم إلى حد بعيد بالعلاقات على مستوى البنية الاجتماعية اولاً وعلى مجمل التقابلات في الرواية ثانياً. وكما أشرت أيضاً إلى أن التقابل الدلالي ربما يكون ظاهراً في كثير من الأعمال الروائية وذلك بفعل عامل ثنائية الفائض والناقص أي مايكون هنا فائضاً ويشكل حاجه مهمة للناقص ومايكون ناقصاً ستكون به حاجه ماسة وملحة لما هو فائض عند الطرف المقابل. تلك عوامل مهمة ربما أخذت اشكالاً اخرى في نظريات نقدية متعددة ابتداءً من فلاديمير بروب (في الحكاية الخرافية) عام 1912 حتى آخر المناهج النقدية التي تتحدث عن الاختلاف بوصفه عنصراً مهماً في تشكيل الصراع واستمراريته في الرواية. في رواية (حب عتيق) لعلي لفته سعيد نجد هذه الظواهر السردية بوضوح والتي سوف نتطرق لها كونها تشكل التقابل في البنية الموضوعاتية والسردية. تقسم الرواية إلى 33 جزءاً وتبدأ الحكاية من زمن الحاضر القرائي في عودة الى زمن البدايات التي كانت سبباً لما يجري الآن (زمن خاتمة الرواية). الحكاية أسبق زمنياً من الحاضر وهي تبدأ لحظة (سماع بدرية غناء شخصية العاشق المأزوم).

عتبات الرواية

أولأ لابد لي أن اسجل ملاحظة أولية على الإهداء الذي لايمتلك أن يكون دالاً على مكان وقوع أحداث الحكاية (سوق الشيوخ) في الناصرية في الزمن الممتد من عام 1925 الحكم الملكي حتى ماقبل 1958 م قيام ثورة الجمهورية.

نتذكر أن يوتوبيا المدن كان فاعلاً في أعمال مثل ماركيز لمدينة ماكندر في (مائة عام من العزلة). ولعمل بدر السياب في مدينة جيكور في قصائده الأولى التي يتحدث فيها عن (بويب). وكما هو عند الكثيرين، حيث أصبح الحديث عن المدن يدخل في اطار (السيرواية)،  أما ما يدخل في إطار الرواية التخيلية فلا أعتقد أن هناك ضرورة لذكر المكان كونه لايضيف  شيئاً، إذ يحدد منأأفق تمثل المكان الذي يخلقه المتلقي بحافز من الرواية ومثالنا على ذلك مافعل  مهدي عيسى الصقر في رواية  (الشاهدة والزنجي) حيث غيب المدينة تماما  بوصفها مكاناً واقعيا من أجل أن يخلق مكانا تخيلياً، مما جعل الرواية تتمثل اي مكان يجمع الصفات ذاتها،

الجانب الآخر يطالعنا في المقدمات النصية كعتبات ل (حب عتيق) نص أطلق عليه (تبرير) يشير فيه إلى لاتاريخية الأحداث في الرواية، ومقلوب الشخوص في الاحداث، والتشابه المحتمل بين الواقع والتخييل،والتلاعب في زمن الحكاية من حيث التقديم والتأخير،  ولا قصدية الرواية.

أعتقد أن ذلك التبرير لاضرورة له مادام التخييل هو السائد الموازي للواقع، وليس هو الواقع بحد ذاته. ومابين هذا وذاك بون شاسع.

حسناً.. قلنا ان الرواية تتشكل من 33 جزءاً، يجري سرد كل جزء بنظام الوكيل عن الشخصية الروائية، وهذا ماحصل في “ الرجع البعيد” لفؤاد التكرلي حيث اناب السارد عن جميع شخوص الرواية في السرد وكذلك ماحصل عند نجيب محفوظ في الثلاثية عندما أناب السارد عن (أمينة) حين كانت مقموعة من زوجها أحمد عبد الجواد وقد تخلى السارد عن انابته لها عندما توفى عبد الجواد كون ضميرها المقموع  قد خرج بعد انتهاء سبب القمع وهو وجود عبد الجواد.

 مجتمع الرواية

يتكون مجتمع الرواية من تقابل وتقاطع مجاميع متشابهة لشخوص اجتمعت مجموعه من العوامل فيها، ومن الغرابة أنها ثلاثية التجانس إذ تشكلت من تقاطع 3 شخوص في كل مجموعة تقابل 3 شخوص في مجاميع أخرى وهي :

-1 3 شخوص من قاع المدينة وهم (نعيمّ، عبيس، وستار)

-2 3 شخوص من اللاوعي الاجتماعي وهم (شيخ كاصد و شيخ ناظم وسيد يوسف)

-3 3 شخوص من الوعي السياسي المتقدم وهم (محمود الصابئي ونعمان وسعد)

-4 3 شخوص من النساء المعشوقات وهن (بدريه ابنة شيخ ناظم و رزيقة المسلمة وتانيا المسيحية)

-5 3 شخوص ظل من النساء وهن (غنيه وأمل وغرام) وهن  ظلال بالتعاقب ل (بدريه و رزيقة و تانيا)

تلك هي تركيبة مجتمع الرواية التي تتشابك وتتصارع ضمن اطار حكاية عشق (نعيمّ ابن الشيخ كاصد لبدرية ابنة الشيخ ناظم)

 التقابل 1

وكما أسلفت أن منطق الفائض التقابلي والنقص المقابل يحصل عند (زيادة في اكتمال شخصية بدرية القوية) و (نقص في تركيبة شخصية نعيم الضعيفة) مما جعلل التقاء الشخصيتين أمراً مستحيلاً لاهتزاز قناعة بدرية بنعيم كزوج لها.

 التقابل 2

هذا التقابل ولد تقابلاً في “الوعي” الشخصي بينهما عبر “ذكاء بدرية المفرط” و“غباء وتهور نعيمّ المفرط ايضاً”. مما جعل اللقاء مستحيلاً حيث تتولد ثنائية أخرى

 التقابل 3

وهي طلب بدرية (المستحيل) من نعيم في أن يتسول كي يجميع مهر قبولها زوجة له، بما يقابل هذا الطلب من قبول نعيم “اللامستحيل” لهذا الفعل المخزي مجتمعياً، وكانا بذلك يتقابلان ازاء المستحيل / اللامستحيل في المربع “الغريماسي” في توصيف بنية الصراع، بين القبول والرفض،  أي التضاد وما فوق التضاد.

 التقابل 4

من هذا التقابل ينشأ تقابل آخر بوصفه تضاداً تولد عندما جمع نعيمّ مبلغ المهر لينفذ به شرط زواجه من (بدرية)، غير أن الأخيرة تشرط شرطاً جديداً بأن يمتنع نعيمّ عن التسول، وهذا مايرفضه نعيمّ بعد أن تعود على ممارسة هذا الفعل المرفوض اجتماعيا فتسقط شخصيته في وحل الجنون والابتذال بعد أن كان شيخا متصدرا تركيبة مجتمع المدينة،  فينشأ بينهما تكريس للتضاد الذي يؤدي إلى تعقد الرؤية.

هذا الفعل السردي بالرغم من سذاجة الحكاية وتداولها في الحس الشعبي وقبيلتها الاجتماعيه إلا أنها دفعت بالروايه إلى إنجاز فعلها السردي، غير أن الفعل السردي ذاته اعتمد على إخفاء الجزء الأكبر من الحكايه حين سردت في الرواية وذلك بما يمكن ان نطلق عليه بالتأجيل.

 التضمين

يزرع علي لفته سعيد وحدات سردية صغرى في الرواية تكسر النسق التسلسلي فيها كما فعل في حكايه (عبيس والميجر) والهدية بينهما، كون هذه الحكاية المزروقة، تكسر ملل انتظار التأجيل في الحكاية الكبرى (حكاية بدرية ونعيم) وتغير من روح النسق المتوالي (الكورنولوجي – التسلسلي – التعاقبي) بالتضمين الكامل غير المتقطع مبتعداً عن التضمين المتقطع الذي ينشأ من نسق التناوب بحسب مفاهيم (اوستن وارين ورينيه ويلك) في كتابهما (نظرية الأدب).

قلنا إن هناك جدليات ظهرت في الرواية وهي.

-1 جدلية (التسول / الامتناع)

-2 جدلية الامتناع عن التسول / الرفض)

-3 جدلية التطهير بماء الفرات (الصابئة / التعميد المسيحي)

عدّ تودورف التضمين تنضيدا كما في حكايات ألف ليلة وليلة ولأن الحكايات في (حب عتيق) متسلسلة، تعاقبيه، مقطوعة تشبه إلى حد بعيد حكايات ألف ليلة ومنها حكايه (محمود) وحكايه (نعمان) وحكاية (نعيمّ) وحكايه (صبيح)، حيث تعد حكايه نعيم وبدرية هي الحكاية الكبرى التي تضم كل حكايات الحب الصغرى،  هذه الحكايات التي أخرجها علي لفتة سعيد إلى سطح النص الروائي تترافق مع تحول البنى الصراعيه في بنية الرواية من:

-1 الصراع الاقطاعي

-2 ثم الصراع الطبقي

-3  ثم الصراع الديني

-4 ثم الصراع الايديولوجي المفاهيمي

يتجلى الصراع الايديولوجي الأخير عبر ظهور الشيوعيين إزاء فكرة تجاور الصراعات جميعها بالحب والعشق وكل ذلك يحصل خلال زمن الرواية المحصور بين 1925 إلى مايقرب من بداية عام 1958.

لقد ولدت في الرواية تقابلات ثنائية من هذا الصراع وهي.

طرف 1

نعيم   /  الشيخ كاصد

طرف 2

بدرية  /  الشيخ ناظم

الحياد

رسول زوج بدرية   /  لاملامح له

 الوعي الممكن

يشكل نعيمّ في التقابل الرجولة الصائعة  “اللا شخصية”، بينما تشكل بدرية الأنوثة الرجولية في اكتمال “ الشخصية “ بما يمكن ان نطلق عليه بالوعي القائم والوعي الممكن كما هو عند “ لوسيان كولدمان) كون الروايه تاريخ بحث متدهور عن قيم أصلية في مجتمع متدهور.

هنا يقول ناظم شيخ عشيرة العلوان في حديثة عن الانكليز “ لكن اليوم اختلف الأمر، علينا الاستفاده من تقدمهم العلمي لكي نفهم كيف يعيشون” ص 60 وهو بذلك يثبت وعياً متقدماً بينما نرى وعيا قائما يناقض ذلك تماما  ذلك تماماً في اصطفاف تقابلي يمكن توصيفه بالخطاطه التالية:

المثقفون  الاميون

الشيخ ناظم + بدرية + رسول الشيخ كاصد + نعيم

ازاء كل تلك التقابلات في البنية الحكائية والاجتماعية للروايه نجد أن هناك التقاء لثلاث ديانات وهي :

-1 الإسلام أغلب شخوص الرواية

-2 اليهودية شخصية جاجو

-3 المسيحية والصابئة جورج ومحمود

يوسع علي لفته سعيد دائرة التقابل الصراعي وبشكل يبدو غريباً عندما يظهر نعيمّ المتسول وقد نصب العداء ص 111 لجاجو اليهودي بسبب القضية الفلسطينية، واجد هذا غريباً حقاً بسبب اللاوعي المتحكم على شخصية نعيم الهزأة، ويتجلى هذا اللاوعي عبر (الحلاوة) التي كان جاجو اليهودي يوزعها والعرق الذي كان جورج يبيعه في مجتمع قبلي سلفي

 الأرصاد

اعتمد علي لفته سعيد على أرصاد واحد مكرر في صفحات (114، 118، 128، 130) وهي:

-1 ولك لوكان بك خير ماجعلتك بدرية مجدي؟ (في الحوار) ص114

-2 كانت حادثة نعيم قد شغلت المدينة بأسرها... تناسوا حكايته مع بدرية (في السرد) ص118

-3 تلك الساعة التي وافق فيها على طلبها وشرطها لتتزوجه (في السرد) ص 128

-4 ستكون عاراً “نعيم” على أهلك وعشيرتك والمدينة (في السرد) ص130

ذلك الأرصاد المتدرج في الكشف النصي أسهم بالتأجيل المستمر للحكاية لاحظ ص115

لقد قسمت قصه (بدرية ونعيمّ) لثلاثة مفاصل في الزمن الروائي وهي:

-1 بداية الرواية “حاضر الحكاية”

-2 وسط الروايه طلب نعيم للزواج وهو الطلب الأول لبدريه بالتسول

-3 نهايه الرواية طلب بدرية لترك التسول ورفض نعيم.

تنتهي احداث الرواية عند الجزء 23 وتتحول الأجزاء العشرة المتبقية إلى نص يرصد مشاعر الشخوص جميعها وبذلك أرى أن في اختصار الرواية عند الخاتمة  للاجزاء 30، 31، 32، 33 عبر التسريع الذي حصل هو مايمكن القول فيه إنه يمكن تغطيته في أحداث سابقه.

إنها رواية تستحق القراءة كونها ترصد حقبة مهمة من تاريخ اجتماعي مهم.

ــــــــــــــــــــــ

*شاعر وناقد، رئيس اتحاد الادباء والكتاب في البصرة.

عرض مقالات: