اخر الاخبار

انطوت القصيدة الأخيرة للشاعر جعفر هجول وكان مفترضاً أن يقرأها في المربد، لكنه توفى قبل الوصول للبصرة يوم 21 آذار 2010، على تفاصيل الذات وعلاقتها مع الجغرافية والفضاءات المتنوعة، أنها شهادة شخصية واعتراف شفاف قال ما ظل كامن في أعماقه:

إيه غاليتي، من قبل في فتوة العمر سعيت إليك.. بظلالك

أطفأت مراهقتي

ولأنك دافئة يدفعني البرد إليك

يا أجمل مشتى في الدنيا

في كل شتاء يهرب قلبي مني ، يعبر جسر الشوق

يحمل وعداً منك ويأتي

أتدثر بالوعد الحالم بين ثنايا اللوز

بين المد والجزر أنام

(نبع يتدفق) قوة الحياة وطاقتها الكبرى والنبع ثورة الانبعاث والخصوبة الكامنة  في الأرض، والتل والجبل، هو الوحيد النبع الموجود في الأماكن العالية والمنخفضة. وله حضور متمركز في العقائد والخطابات وأيضاً في الأساطير وهو متجاور مع البئر، كلاهما متدفقان ولا ينضب ماؤهما وجرت مرويات توراتية حول النبع وكان وسيطاً بين جسدين، للرجل والمرأة. والنبع رمز الطهارة والبياض وهو يكون وسيطاً للاتصال الجنسي عندما تغادره المرأة أو تكون فيه. والنبع مستمر بتدفقه وكثيرة هي التي ظلت زمناً طويلاً، لأن مكانها يغذيها دوماً ولم يجد الشاعر جعفر هجول أكثر رمزية من النبع، شفافاً وقريباً من الملتقى ليعبر به ومن خلاله عن البصرة.

لم ير الشاعر البصرة من خلال الخضرة/ الانبعاث وديمومة الحياة فيها. وقد اضفى على البصرة أجمل الصفات ومنحها خصائص المدن الخيالية. واستذكر عناصرها التاريخية المانحة لها موقعاً لم يكن إلا لها. وبذلك كانت وظلت ربوة تأريخ أخضر

من ربوة تاريخ أخضر

تطل علينا البصرة بجدائلها

ملوحة بالعبق السحري الذي لا ينضب

وبفرشاة لونتها العبقريات لوحات على مرّ الزمن..

سفن تبحر في لجج الحقب الممتدة فكراً.. أدباً.. شعراً

لا تعرف للظلمة معنى يتباهى بالجهل

إنها مدينة لا تشبه مدينة أخرى، وهذا الذي أراده لها الشاعر والبصرة مدينة ترفع يدها المجازية وتلوح لعشاقها بالعطر السحري وريحها حاضر وباق في كل مكان.

البصرة لوحة ليست لفنان واحد وإنما تنوعت العبقريات على مرّ الزمن وتلاعب الشاعر بسفنها المقترنة مع الماء، وجعل منها فكراً وأدباً وشعراً ظلت محاولة الشاعر بالكتابة عن البصرة محكومة بالمألوف المقيد بما مرئي وكان الانزياح بسيطاً إذا لم يكن غائباً، لأن حضور الصور التي في الذاكرة هي الطاغية واكتفى بها الشاعر لتقول ما أراده هو عن مدينة لها اقتران بالسعادة والصداقة خلال تاريخ طويل، استمر طويلاً.

لم تكن العلاقة بين الأنا/ والمكان عاطفية، سريعة، بل هي علاقة لها مكونات ثقافية/ اجتماعية/ سياسية وهذه كلها حاضرة من خلال تصورات شعرية عديدة:

سفن تعلوها أشرعة مطرّزة بالألوان

لا يجهل معناها نورسه

كيف الزاجل ألغى عودته؟

وتمنى لو أن جناحيه سراب

أنت وعشقي الحلة فيحاءان

فيهما يضوّع طلع الأدب الثر بين ثنايا السعف الأخضر وفوق عروش

الهامات من النخل الممتد

ليباهي أزمنة ظمأى.

هذه القصيدة مبنية على مرويات مختزنة بالذاكرة وهي مجموعة من الأفكار التي ضبطها الهيكل البنائي الشعري، وفاضت بالمحبة نحو المكان الفيحائي المتجاور مع مكانه هو/ حلته/ الفيحاء لم يكن الموحد بين الشاعر والبصرة الا الذكريات/ والمرويات المستعادة بتفاصيلها وإنما لأنها مجاورة في خصائصها لفيحاء الشاعر/ الحلة.

يستعيد الشاعر أبرز مميزات البصرة التي لولاها لما كان الجاحظ والخليل. وفي هذا المقطع تصل القصيدة الى ما يشبه الإعلان عن الجغرافية/ التاريخ/ والرموز مثل الخليل والجاحظ، وأعتقد بأن الشاعر جعفر هجول اتكأ على ثوابت معروفة في تاريخ البصرة، هذا الى جانب خزين الذاكرة وقد وظف الشاعر الشفاهية في قصيدته والاستفادة من طاقتها الإحالية على السائد الفني في البصرة، وقد فتحت هذه البؤرة الواحدة والسريعة أفقاً أمام القصيدة وتحريك حالة السكون والتكرار فيها.

ثم غنى الكوكب الحُلّي للآتين لحناً

صاغه البصري شوقاً وأنيناً وحنيناً

[ابنادم داده بهيده اعله بختك لا تعت بيها..

روحي انحلت. والشوق يبنادم... والشوق ماذيها]

في هذا التوظيف الشفاهي/ الغنائي إمكانية منح القصيدة فرصة الحراك قليلاً وكان الشعر العامي يمتلك شحنة درامية فضلا عن أنه كاشف عن مجال اجتماعي، حرص الشاعر عليه لأنه جزء يقظ في ذاكرته. وتكاد أن تعلن القصيدة بوضوح عن الاجتماعي والفني وجعل من الثقافي نبعاً جديداً في قصيدته كأنه امتد بالعنونة/ ليصل بها وتتحرك في القصيدة لتكون نبعاً من نوع آخر، لأن الثقافة حياة خضراء .

يا بهجة عمري الممتد وهو يشاهد في المربد عرس بنيها في عقد قران

الآداب، يتراقص نقد لا يسلك للباطل درباً

ويغني كي يطرب كل حضور الحفل

تبقى أمنيتي الكبرى، أن يتجدد هذا العرس مديداً..

ثم أموت..

النبع مبتدأ القصيدة وهو جوهرته النصيّة الأولى ويخضع الشاعر قصيدته لهذه الدلالة المألوفة والرمزية، وتظل مهيمنة لأنها أمنية الأنا/ الذات التي يحلم باستمرارها حتى لحظة قادمة إنه حلم الشاعر ولن يخشى بعد تحقق كل الذي أراده من أن يموت. وقد اختتم قصيدته بالنهاية التي لا تهمه إن تحققت فعلاً. لكن مثل هذا الموت لا يلغي حضور الشاعر الاعتباري والمعنوي وإن استطاع عليه فسلجياً، هو باق مادامت البصرة/ الحلة ولكل منهما حضوره الثقافي/ الفني/ الجمالي.

مات الشاعر جعفر هجول ومنحته هذه القصيدة حضوراً في فعاليات مربد كل عام وحتماً سيقترن هذا الحضور مع أية فعالية ثقافية، لأن نبعه سيظل متدفقاً.

عرض مقالات: