اخر الاخبار

رواية “انثى غجرية” الصادرة عام ٢٠١٨،للمفكر والروائي الراحل د. رسول محمد رسول،الذي فقدته مؤخراً الاوساط الثقافية العراقية والعربية، هي رواية عن محنة المرأة العربية، ومنها العراقية، عندما تضطر الى الهجرة خارج وطنها، بحثاً عن وطن بديل إفتراضي، بعد أن شعرت بانعدام أوكسجين الحرية، وتعرضها الى مخاطر القتل والاستباحة والاغتصاب، من قبل عصابات ومافيات تتستر زوراً بشعارات الدين والوطنية،فتتحول على الرغم منها الى انثى غجرية.

والرواية تدور حول تجربة فتاة عراقية مسيحية من مدينة البصرة هي (أسماء يوسف)، التي وجدت نفسها مضطرة الى الهجرة الى عدد من مدن العالم منها الأردن ودولة الامارات والمغرب وفرنسا، وتكشف الرواية عن مرارة الحياة التي عاشتها البطلة في حلها وترحالها، كما يقال، ولذا بدت إمرأة إستثنائية وشجاعة وهي تقاوم عواصف الزمن وتياراته الطاردة بذراع واحدة، لأنها ولدت بذراع مشلولة، كما أنها فقدت والدتها (نعيمة شمعون) على فراش الولادة وكأن موت والدتها كأن هو ثمن الصرخة الأولى التي أطلقتها في وجه العالم وهي تخرج مدماة من رحم الأم الميتة.

والرواية تكشف منذ صفحاتها الأولى، بل ومن العتبة النصية الأولى التي تستهل بها الرواية، أنها رواية ميتاسردية، إذ تعلن بطلة الرواية عن عزمها على كتابة روايتها الخاصة، التي ستكون عن حياتها، لذا فهي تخاطب الراوي أن يتوقف عن الكلام لأنها قررت أن تكتب روايتها الخاصة، وهو ما أعلنت عنه في “ العتبة النصية”الأولى للرواية:

“أيها الراوي

توقف عن الكلام

قل للروائيين أن يرحلوا بعيداً عني

قل لهم أن اسماء يوسف أصبحت روائية.” (ص 5)

ونجد هنا، فضلاً عن رغبة البطلة في كتابة روايتها الخاصة بها، اشارة واضحة الى عنوان الرواية ذاته “ انثى غجرية” وهو موضوع سنتوقف عند دلالته لاحقاً، ومن الملاحظ أن هذه العتبة النصية التي تستهل بها الرواية تعود ثانية الى الظهور في نهاية الرواية (ص 142 – 143) مما يمنح الرواية صفة الرواية الدائرية التي تنتهي من النقطة التي بدأت بها، وهو أمر يتيح الفرصة للقارئ لقراءة نقدية تأويلية غنية.

والرواية في الجوهر، رواية شخصية لأنها تتمحور حول تجربة حياة بطلته اسماء يوسف واضطرارها الى التنقل من بلد الى آخر، بحثاً عن الأمان، والحرية والكرامة الانسانية. ومع أن الرواية ذات طبيعة سردية ذاتية مبأرة، لأنها تعبر عن ذات البطلة ورؤيتها، الا أن الرواية، من جهة أخرى، تنطوي على تنويعات سردية مختلفة، منها السرد العليم الذي تستهل به الرواية، فضلاً عن المكانة الخاصة التي تحتلها الرسائل، وبناء المشاهد والسيناريوهات السينمائية في البنية السردية. ولايمكن أن ننسى أهمية المقابلة التلفزيونية التي أجراها معها الصحفي الفرنسي (روبي)، والتي كانت بمثابة انموذج للصحافة الاستقصائية، كشفت فيها البظلة عن صفحات مجهولة من حياتها، من خلال الحركة الخطية المتصاعدة لبناء الرواية، حيث راح البياض الدلالي كما يقول السيميائيون لشخصية البطلة (أسماء يوسف) بالامتلاء، شيئاً فشيئاً، فاصبحنا أمام شخصية أنثوية إشكالية استثنائية. فهي فتاة مسيحية تعتز بارتداء قلادتها التي تحمل صليباً برونزياً أحياناً، وهي تفقد أمها (نعيمة شمعون) عند الولادة، لتطل على العالم بذراع مشلولة، فلتنتقل حضانتها الى اثنين من الامهات الحنونات هن (طاهرة) و(ميري) اللواتي يرحلن تباعاً، فتظل وحيدة تواجه المجهول، لكنها تمتلك الارادة الاستثنائية الصلبة لمواجهة هذه الصعاب، فتكمل دراستها في اللغة الفرنسية في كلية اللغات بجامعة بغداد، وتصبح مترجمة محترمة مرموقة. لكن هيمنة لغة العنف والاستباحة والاغتصاب والقتل التي هيمنت على الحياة في المجتمع العراقي، دفعتها الى الهجرة بعيداً عن وطنها الذي ظلت تحن اليه وتحلم به.

لقد كانت البطلة (أسماء يوسف) تبدو في تنقلها الاضطراري بين الاوطان البديلة، تشعر أنها مثل البدوي، أو الغجري الذي اقترنت حياته بالتنقل الدائم، مما دفعها الى أن تطلق على نفسها، وعلى الرواية التي شرعت بكتابتها بـ “ انثى غجرية”. لكن بطلة الرواية (أسماء يوسف) حاولت توضيح معنى هذا المصطلح الذي قد يلتبس بدلالات أخلاقية انحطاطية، فقد نفت في مقابلة تلفزيونية مع الصحفي الفرنسي (روبي آلن) أن يوحي تعبير انثى غجرية” الذي أطلقته على نفسها، انها متاحة للجميع كأنثى:

“ الأنثى الغجرية.. انسانة عصفت بها الحروب الطاحنة وأهواء العنف الدموي.. ما أقصده هنا تلك المرأة العربية التي باتت رحّالة، وهي تفقد أوطان عدة تباعاً حد الضياع.” (ص 51)

وتبرر تسمية الانثى الغجرية أكثر من مرة:

“ هل أنا انثى غجرية؟ نعم أنا كذلك، وتجربتي خير دليل. “ (ص 51)

وتشير (أسماء يوسف) الى انها بعد أن فقدت أمها البيولوجية (نعيمة شمعون) اثناء الولادة، فقدت أمها الثانية (طاهرة) ثم الثالثة (ميري)،وأخيراً فقدت والدها الذي كان يؤمن لها الرعاية والبحث عن ام بديلة، كما أشارت الى أنها فقدت مدينتها البصرة، ووطنها العراق، وانتقلت الى اوطان بديلة جديدة، فوجدت نفسها في عمّان، والمغرب والامارات،حيث تعرضت في المغرب اثناء محاولتها الهجرة غير الشرعية الى اسبانيا الى الاغتصاب من قبل احد المهربين،مما اضطرها الى دفعه الى البحر ومن ثم قتله بالمجذاف. وها هي تعبر عن محنتها وضياعها،وهي تسير نحو المجهول:

“ ولا أعرف في أية أوطان سأكون في مرحلة لاحقة، أنها رحلة غجرية لا تبدو أنها ستقف عند مكان ما، في هذا العالم الصغير.” (ص 52)

ان (اسماء يوسف) تلخص مأساة المرأة العربية، المقتلعة رغماً عنها، من وطنها، ومن جذورها من “ المكان الاليف” الذي تحبه بتعبير (باشلار) نحو أماكن بديلة لها “معادية” بحثاً عن حريتها وأمنها وكرامتها. وفي الوقت ذاته تكشف البطلة عن قوة الارادة التي تمتلكها لمواجهة كل هذه المآسي والعواصف والخسارات، والسير مرفوعة القامة، وهي ترفع يافطة انسانيتها وأنوثتها المهددة بوجه الخراب والعنف والاستبداد، وتواصل الدفاع عن عالمها الانساني الخاص بها، دونما استسلام، أو قبول بالهزيمة. لقد كانت تخوض معركتها الخاصة ضد العوق والعجز والاجحاف والتنكر بشجاعة وثقة:

“ سأتحداك يا عجزي، أنا إبنة التضحيات، إبنة المعجزات، سأفعل ذلك رغم ضعفي.” (ص 39)

ولذا فقد أضحت البطلة (اسماء يوسف) رمزاً للمقاومة الانثوية في عالم الاستبداد السياسي والهيمنة الذكورية، كما أصبحت رمزاً متألقاً يحتذى به في عالم المعاقين الذين يبحثون لهم عن مئال ملموس وشجاع يضيء لهم طريق المستقبل والحياة والأمل.

وتعزيزاً للمنظور الميتاسردي في الرواية، نجد البطلة (أسماء يوسف) – والكاتبة المفترضة للرواية تميط اللثام عن الحوافز الداخلية والنفسية والجمالية التي تدفعها الى الكتابة، فتشير الى إطلاعها على كتابات الناقد الفرنسي (رولان بارت) وقصائد الشاعرة المغربية (فاتحة مرشيد)،فتنثال كلمات الغياب، وابتكار الذكريات، وكأنها تستكمل الجانب الاجتماعي والتاريخي والنفسي الناجم عن القهر الاجتماعي وغياب الحرية واستعباد الانثى، بالدوافع الجمالية والفنية التي ألهمتها في مشروعها الكتابي، فتوقفت عند كتاب رولان بارت” شذرات من خطاب في العشق”والتي الهمتها فكرة الغياب “ فكرة أن تكون المرأة شجاعة في كتابة الغياب برواية أو قصة بدت تستأثر باهتمامها” (ص 57)

كما ألهمتها قصائد (فاتحة مرشيد) عن الغياب وابتكار الذكريات والتي زادت من اصرارها على أن تكون مبتكرة وخلاقة في كتابتها وتدوين ذكرياتها عن نفسها. وعن بنات جنسها، كما نجد ذلك في هذا المونولوغ الداخلي:

“آه منك يا أسماء.. الغياب، غياب الأحبة عني، ما يلاحقني هو غيابهم، لابد لي من إبتكار كتابة الذكريات، لا بد أن أكون مبتكرة، بل خلاقة في ابتكاري.” (ص 57).

وتعترف (أسماء يوسف) أن قراءة بارت وفاتحة مرشيد قد فتحت شهيتها للكتابة، وايقظت الرغبة بالكتابة عن تجربتها، مما يجعلها تجد مفاتيح قضيتها، كأنثى بعذبها الغياب” (ص 58).

ولم تقتصر (أسماء يوسف) في الحديث عن عالمها الخاص ومحنتها كأنثى، بل فضحت الانظمة السياسية والاجتماعية التي أسست لهذا الخراب وهذا التدمير لشخصية المرأة،وركزت بشكل خاص على تعرية النظام الدكتاتوري الصدامي،كما كشفت عن اتأثيرات المدمرة الي تركها الاحتلال الامريكي على حياة الناس وامنهم ومستقبلهم.

والمحت البطلة الى انهيار القيم بتأثير الحرب” صارت أخلاق الناس تنحدر الى أنانية غريبة. كانت بغداد مدينة تغرق بأوحال الضياع والزوغان في كل أشكالهما. كانت العاصمة، وما زالت مدينة الاحتضار المروّع، كانت تصرخ بالم ولا أحد يسمعها، فكانت تمضي بلا سيقان تحملها، سوى أصابع قدم مهشمة.” (ص 77)

وكشفت عن إضطرار الناس الى الهروب من وطن ينخره الجوع والموت البطيء، وهم يبيعون بيوتهم وأغراضهم بأثمان بخسة لتجار وسماسرة أوغاد، سرقوا الكويت. وعادوا ليسرقوا بلدهم من جديد. وتحدثت بمرارة عن حياتها زمن الحصار في بغداد:

“ عشت في بغداد الحصار، وكنت أشاهد كيف تؤكل العاصمة من كتفها، وكيف تنخر من خاصرتها، كلما تمادى الحصار الاقتصادي، كلما تهيأت بغداد لانهيار قادم، لنهش جديد، حتى صارت بلا ملامح سوى كونها مدينة مهزومة، تمرح بها شياطين الخراب.” (ص 78).

ولم تتوقف الراوية عند ظروف العراق تحت ظل نظام صدام حسين الدكتاتوري، بل غطت مرحلة ما بعد الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003:

“ بدت العاصمة وضواحيها غابة وحوش بعد مرور عام على إحتلالها.” (ص 78)

وخلال تلك الفترة المتسمة بالصراع الطائفي، اتصل بها الدكتور دانيال وأخبرها أن بيتهم بالبصرة استولت عليه جماعة دينية “قلت له: اتركه، واتركهم، انهم يعيشون زمنهم الذي لهم، هم إسلاميو هذا العصر، ولا نجاة من ظلمهم الا بالرب الرحيم العادل.” (ص 79)

وقالت للصحفي الفرنسي الذي أجرى معها مقابلة تلفزيونية بمرارة:

“وطني احرقه الغزاة والمرتزقة، وسرق ما تبقى فيه حثالة اللصوص.. أصبح الوطن الحقيقي مفقود الوجود. أصبح عليك أن تعثر عليه، تبحث عنه، تنقذه من النسيان.” (ص 49)

وتعرضت البطلة في إحدى المرات الى خطر الموت عندما دق الباب أفراد لا تعرفهم وطلبوا منها الرحيل من البيت والمنطقة” فأنا مسيحية كافرة “بحسب منظورهم، لكني أعرف انهم مجرد عصابة فاتكة تريد المتاجرة بالبيت، مثلما تتاجر بالدين.” (ص 80).

واضطرت الى الهروب بنفسها فجراً دون ان يراها أحد، لكنها وجدت ملاذاً في بيت صديقة لها إسمها (زينب) وهي مسلمة شيعية من زميلاتها في الجامعة حيث استقبلتها في بيتها في مدينة الكاظمية، وعاشت معها ومع عائلتها بأمان. وصورت أسماء حال مدينة بغداد التي تحولت الى مدينة أشباح وقتل يومي وصار ذبح البشر فيها على الهوية.” (ص 81).كما تحدثت (أسماء) لمجلة (زهرة) عن حالة المرأة العربية بعد ظهور منظمة داعش الارهابية:

“ ليس فقط المرأة العراقية، بل المرأة العربية عموماً. انظري الى عدد كبير من النساء السوريات، فهن إما جائعات أو مشردات أو سبيات لدى الدواعش،.. وكذلك هي حالة المرأة في العراق بعد إحتلال الموصل.” (126).

والرواية، بقدر ماهي رواية عن محنة المرأة العربية عندما تضطر الى الهجرة، فتتحول الى “ انثى غجرية”، فهي أيضاً شهادة وادانة ضد أنظمة الاستبداد العربية وفي مقدمتها نظام صدام حسين الاستبدادي، والنظام الطفيلي الطلئفي الذي جاء به الاحتلال الامريكي للغراق والتي مهدت لهذا الضياع، والتمزق في النسيج الاجتماعي العراقي والعربي.

عرض مقالات: