(لن تهدأ) عنوان المجموعة القصصية لناظم علاوي الذي قدم فيها  ثماني قصص قصيرة واختار العنوان السابق من واحدة منها  عنوانا رئيسا للمجموعة كلها، وهذا ما جذب انتباهي بوصفي متلقيا لأن انتخاب العنوان ليس اعتباطيا، ولعله  يجد في مثل هذه العناوين الجذابة بؤرة جوهرية في تجربته القصصية التي (لن تهدأ) إبداعيا مادامت منتجة سرديا لمزيد من القصص والرؤى والأفكار..

ولن تهدأ..لأن مؤلفها قاص مثابر مجتهد قد يغيب فترات من الزمن عن المشهد القصصي لكنه يعود إليه بقوة وبنتاج جديد كما ونوعا..

و (لن تهدأ) أيضا الذوات السردية التي يشكلها القاص في فضاءات النصوص لأنها ذوات درامية تعيش صراعات داخلية وخارجية في تجارب الحياة..

ومنها الذات الانسانية الذكورية في القصة التي حملت العنوان السابق نفسه..في متن المجموعة، إذ نجد ذاتا ذكورية متعبة ومرهقة كونها قاتلت على جبهات متعددة..اولها جبهة الحرب الحقيقية الخارجية التي أفقدت بقسوتها البطلَ  من (اليقين)  بالقدرة على تذوق جمال الحياة..عدا ما وجده في تجربة الحب من طرف واحد لامرأة (متلفِّعة بالزيف) وكان يعول عليها في التمسك بسبب واحد في الأقل لحياة جميلة..

    وتلك التجربة كانت الحرب الداخلية المحتدمة في أعماقه، وهنا الهوس بحب تلك المرأة كان مصدره هو نفسه بذاته العاشقة حد الجنون لها..مع جمع آخر من (عشاقها المهووسين بها ).مع أنها تعدهم مجرد أرقام في طابور طويل من المغرمين بها.

بينما على العكس كانت الحرب الخارجية هي صاحبة الهوس بضحاياها وهو منهم، كما يشير في عبارته : (بعد أن فقد اليقين في هوس الحرب ).

تعاني شخصية البطل الرومانسية الحالمة من رفض الآخر(المرأة المحبوبة )  لها ((أنت غير مقبول لدي ))، فضلا عن إحساسه برفض مكاني من المدينة وناسها ((ماتت مدينته بعد أن صفعته الوجوه المزدحمة بابتساماتها المستهزئة ))، لأنه كما يتصور يعيش في ((زمان لايصلح للنقاء )) ولا لنفسه ((الهادئة والمنضبطة التي لم تعرف يوما الزيف ))، ومن هنا يقرر مغادرة بلدته في محاولة لنسيان كل هذه العذابات.

في الغربة يقضي سنوات طويلة من التنقل بين مكان وآخر ومن الوحدة والتشرد مسكونا بالخوف واليأس، وهناك يشعر بحنين طاغ إلى مدينته الي تصالح معها بالتذكر وبما رسخ في ذهنه من صورها (حديقة الشهداء، منارة الحدباء، الجسر العتيق ).

لكن تخيل محبوبته مع زوجها وأطفالها  بعد هذه السنوات، أمر يمزقه ويشعل نيران الغيرة في أعماقه، ثم تأتي اللحظة الحاسمة ليقرر مصيره بعد عشرين عاما من الغربة، هل يبقى أم يعود ؟.

كانت رسالة من أهله تبين معاناتهم في ظل فترة الحصار التسعيني الذي عاشوه في البلاد، وتستنجد به لإنقاذهم.لكنه في لحظة الصخب النفسي والصراع المعتمل في أعماقه يقرر تمزيق الرسالة والمضي قدما في أسفاره فما في أعماقه من انكسارات الحب ماتزال محتدمة في داخله.((لايدري إلى أين ؟ لكنه أحس بأنه معلق بكل قصاصة منها وأن روحه تتقافز لتستقر أو تهدأ، لكنها ابدا ستظل في حركتها العشوائية )).

اعتمدت القصة على الراوي العليم الذي يسرد الأفعال ويصف كل شيء لاسيما المشاعر الداخلية للبطل، وطغت على لغة القصة نزعة شعرية في التصوير والتخيل المنسجم مع طبيعة المشاعر النفسية المعقدة المحتدمة في أعماق الشخصية ورؤيتها لحياة كما نجد ذلك في الصور البلاغية الآتية مثلا : ((وتعود ملكة إلى عرشها الذاوي في قلبه / لتصفعه كلماتها الحادة / عبر حقول الياسمين في كيانه / عانقت أحزانه تلك اللغة التي أسرج خيولها رفضُها له / وتقطعه كما الخشب / مرارة الوحدة / الكلمات تهرس وجدانه / تنخس ذاكرته / الحياة مثل درب معبد طويل / سرداب قلبه...).

لعل قراءتي السابقة وصفية فنية قاربت النص في إطار بنيته اللغوية فحسب، لذلك عند العودة إليه بقراءة ثانية تخرج به من ذلك الإطار وتموضعه في إطار ثان يخص البيئة والزمن والظروف التي اشارت إليها مرجعياته يتبين لنا أن أحداث القصة تمتد من حرب الثمانينيات لأن البطل نتاج محرقتها نفسيا، وحتى فترة الحصار التسعيني الذي فُرض على العراق، وأن الشخصية موصلية من الإشارات المرجعية المكانية في القصة، ومن ثم فإن المتغيرات السلبية  التي تركتها هذه الفترة الحرجة في سلوك الشخصيات تجلت في شخصية المرأة التي كانت مادية، جافة المشاعر، تنتظر الرقم الأكثر ثراء من الرجال للقبول به زوجا لها.بينما مثلت شخصية البطل انموذج الإنسان العراقي المبدئي النقي الذي لم يستطع الانسجام مع جحيم تلك المرحلة ففر هاربا منها إلى جحيم الغربة، ولأنه ميت نفسيا وخاسر في الخيارين، ينتهي به القرار إلى هروب مستمر كما تتصور الشخصية، لكنه كان في الحقيقة مجرد هروب رمزي إلى مزيد من الخسارات على مستوى الذات، والأهل، والمدينة..

ثقافيا يمكن قراءة النص قراءة ثالثة، تجد فيه أن الشخصية تخضع لنسق (البطل العاشق الفارس ) أو الذي يتمتع بأخلاق فرسان الماضي، فيضحي بحياته من أجل الإخلاص في حبه للمرأة ولو على حساب كيانه النفسي والاجتماعي، ومن ثم يجد في الانسحاب من حياتها نوعا من الانتصار كونه حافظ على موقفه دون أن يخسرها بالحرب معها ولو عاطفيا، لأنه يرى في ذلك القرار نوعا من الرجولة والفحولة التي تتعالى على أن تغصب المرأة في أن تحبها رغما عنها، فتتسامى شخصية البطل بموقفها وتفضل الانسحاب للمحافظة على صدق حبها، بل تبالغ في تساميها فتضحي حتى بمدينتها التي تتغرب عنها، وبالأهل الذين استنجدوا بها، فما في داخل الذات من حب لن يهدأ أبدا حتى الموت الجسدي، لأن الموت النفسي قد تحقق بهذا الهروب العبثي.هنا نجد أثرا وجوديا وعبثيا  لشخصية البطل من رواسب الأدب الوجودي لاسيما في رؤيته الكئيبة للحياة، فضلا عن قراره الأخير بتمزيق رسالة الأهل والمضي بلا هدف.ولا نستبعد ذلك عند ناظم علاوي وهو من جيل نشأ قارئا نهما لذلك الأدب في بواكير تشكيل شخصيته الإبداعية، كما وجدناه شاعرا بلغته وهو الذي عاصر الشعراء أكثر من معاصرته للقصاصين.لذلك بهذه الروح الإبداعية المركبة في تشكيل مرجعياتها الثقافية والحياتية..لن تهدأ أبدا ياناظم علاوي...وستبقى مثل بطلك تنثر القصص عاليا في الفضاء وفي كل قصة نسغ من روحك.