اخر الاخبار

إن الصورة (وعي) قبل أن تنتمي إلى (البناء) فهي منظومة أنساق متنوعة تتشكل فيها خطابات المعنى، مع حضور السياق الدلالي والعلاماتي، ومن هنا يتجسد فيها الوجود الإنساني ببنيتيه (الواقعية والمتخيلة)، فهي تجسد الوعي، وعلى هذا النحو تتقاطع فيها اتجاهات عدة،  يمكن أن توصف الصورة (بنظام) من الوظائف تتجسد في بنية كلية مفارقة، ومتماسكة داخلياً تقدم نفسها في النص على أنها كل موحد، كما أنها تسهم بانبثاق المعنى وتدفعه إلى التعدد والاختلاف،   من هنا ندرك أن الصورة وعاء المعنى، وحاضنته الدلالية، فهي التي تفرض تشاكلاتها على المعنى الذي يعد الرهان النهائي للنص الشعري، وهذا ما يمكن بيانه في المجموعة الشعرية (عمرٌ يتسابقُ نزيفاً) للشاعر مهند عبد الجبار، فهي تعتمد الجزيئات المترابطة التي تنتظم في مجموعة حقائق تحيلنا إلى الكشف عن المقاربات النصية في أبعادها البنائية والمضمونية المتشابكة، فاكتساب المعنى صار نتيجة حتمية لفاعلية الصورة الشعرية، وهذا ما يمكن بيانه: 

أمّا الليلُ المتمسك بزيّه الرسمي

يأبى أن يخلعه بخفة

قبل أن يوقظنا من الحزن

فالأحلام تغلي حدَّ الارتعاش

وجمرة الأيام اللاذعة

لن تهفت بعمق الذاكرة.

    في النص الذي تشكلت معطياته من شبكة لها أنساقها الواقعية المتعينة (الليل، الحزن، الذاكرة)، هذه المعطيات الصورية هي إحالات مقصودة بذاتها تعامل معها الشاعر على أنها أنساق ذهنية تكشف عن محنة إنسانية وهو يصارع الظلام قبل أن يداهمه الحزن، هذا الكشف الصوري أسهم في تشكيل المعنى وحدد مساره في بناء معمارية النص، فالتشكيل الصوري في المقطع أعلاه أشبه ما يكون بعملية (صهر) وهي خلق وحدة متجانسة من أشياء مختلفة تصل حد التضاد، لتأتلف في مركب بقصدية واعية وعلى وفق هذه الآلية فأن الشاعر نقل المعطيات من عالم الواقع إلى عالم التصورات الذهنية، لذلك حققت الصورة فعل (التحول) عن طريق التدرج الدلالي (حزن، ارتعاش، تهفت)، وهذا التدرج أنطلق من (الليل)، فيما نجد اعتماد التتابعية يعطي للصورة وحدة منظور تتداخل فيها الرموز والدلالات:

المزاجُ مختلفٌ تماماً

بتلك الخطوات المفعمة

سنصبح أثنين مقابل واحد

أننتصر...

إنَّ رصد حركة المعطيات تتجلى في قدرتها على انتاج انساق تتأسس عليها جدلية النص في بعديها (التركيبي) و(الدلالي)، تعتمد مجموعة تقابلات بين ما يراه (المعطى )، وهو صورة (المزاج المختلف) وما يبثه (النص)، وهو صورة (الخطوات المفعمة) فلقد توضحت لنا جواهر المعطيات والتي تدور في سياق محنة إنسانية، مما ترتب عليها أنساق لا تخرج عن حدود هذه المحنة، وهي أنساق تفصح عن (الضياع) و(الخسارة)، إذن الانتاجية النصية تقوم على شبكة من المعطيات وحدود قدرتها الإحالية، مع الكيفية التي يتبنى فيها النص هذه الشبكة، ولذلك أن أمر هذه الانتاجية وحدود حراكها يتوقف على الوعي الشعري وامكانياته (الكشفية)، ومن هذه القدرة نتمكن من بيان حداثة المعنى الشعري من عدمه، ليتسنى لنا رصد طابعه (الاختلافي).

الأجواء الملبّدة بالوعود...

لا علاقة لها بالتقاويم

تدفأوا جيداً...

قبل أن تصطك الأرواح.

إن دعوة الشاعر للآخر بأن يتكاتفوا قبل (أن تصطك الأرواح) هي دعوة تحمل ترميزات (الخوف)، وفي تلك الصورة نلمس تكثيفاً دلالياً كشف لنا عن المعنى الأعمق للصراع الذي توافر على صور إيحائية أصبحت وسيلة حتمية لإدراك الواقع، ولعل (مهند عبد الجبار) يدرك وظيفة الصورة في استخدامها السردي الذي استثمر فيه (التركيز والتكثيف) اللذين يعدان أهم خاصيتين في قصيدة النثر، وهذا ما سنلمسه في نصه الآتي:

هكذا ولدنا...

بأحلام الوطن مخضبين

لا نجيد التطبيع مع الظلام،

لقد تشكل المقطع السابق على وفق متواليات واقعية لها مستوياتها الدلالية،  فقد استوعب النص هذا التقابل الذي تجسد في صورة (الأصدقاء) ثم يلحقها الشاعر ببعض (الأسماء) لشخصيات معروفة، ولكل من هذه الشخصيات  دلالاتها في تصعيد الحدث الشعري وأنساقه على الرغم من اختلافها وتباين أهميتها الإنسانية ومنعطفاتها الثقافية، وإن هذه المعطيات بإحالتها النصية مشحونة بطاقة تعبيرية تتخلق داخل نسق (الفجيعة)، وهذا النسق تشير إليه دلالات المفردات وهي (الظلام، الحرب، الصراخ) التي تمركزت في  الإطار السياقي لـ(الموت) كما نلمس تقابلاً بين شبكة المعطيات وحدودها السياقية، وان هذا التقابل شكلّ رؤى النص وحراكه الذي ارتكز على الوعي بالواقع وتجلياته النصية التي جسدت محنة إنسانية تلقي بظلالها على تراكيب النص وهندسة المعنى فيه.

  تبقى وظيفة المعطيات في قدرتها على إحداث نقلة (مضمونية) ترتكز عليها الصورة الشعرية، وهذه النقلة تقابلها قدرة (تركيبية) لا بد أنْ ينسجها وعي شعري يعرف مجمل إحالاتها، فالتقابل المتبادل بين شبكة المعطيات وما ينبثق عنها من معنى لا بد وأنْ تتماهى وقدرة النص بوصفه حاملاً لهذا التقابل، الذي له القدرة على تغيير المعطى والتحرر من قوانينه واختزال الكثير من خصائصه والذي يجعله أكثر سعة على حمل (معنى)، إذن منظومة المعطيات وخصائصها ومقوماتها لم تكن بمعزل عن منظومة الأنساق، ومن هنا تتم عملية تركيب النص، وهذا ما يمكن بيانه في نص الآتي:

موحشة الطرقات

ترى أين أخبيء عينيَّ

فالحقيقة ما تزال أنثى مضطهدة

والحياة استنزف جيوبها الإفلاس

   تتشكل  الصورة الشعرية هنا من أبنية متعددة، لذا يصبح النص المجال الذي تمارس وتتموقع فيه مجمل الشبكات التي هي مركبات نصية، ومن هنا ندرك أنَّ النص عند الشاعر هو عملية إنتاجية يتم فيها استثمار وتوزيع تلك الشبكات والتي تكون ملائمة لبنية  النص الكلية، كما أن تحولات المعطيات لا تقوم كلها على درجة واحدة في الإنتاجية النصية، فلكل نص فضاؤه ونمطه الذي نؤشر فيه خصائصه، فالنص يعيد تشكيل المعطيات لإثارة طاقتها الإيحائية الكامنة، مما تتجاوز المعطيات في النص طابعها المتعين إلى نسق يتفجر من خلاله المعنى والدلالات الكامنة خلفه، وهذا ما يمكن بيانه في نص

لا تصدروا أيّ ضجيج

هكذا نحنُ....

نزلاء هذهِ الحياة

مفاتيحٌ بلا أقفال

نبحث في عزِّ الظلام

عن البؤرة.

هنا يعتمد على فعل (نبحث) بكل ثقله الواقعي لتنبثق عنه ومضات رؤيوية ذات حمولات دلالية لا تخرج عن (المعاناة الذاتية)، فالشاعر وهو يكشف عن حاضره الحياتي من خلال بناء مجموعة من المتواليات تمركزت في جملة (نزلاء هذهِ الحياة)، إنما يريد تكوين ردَّ فعل مضاد تتجلى في العلاقة انبثاقية بين ما هو واقعي ورؤيوي، أي بين الحياة /الضوء، والموت/ الظلام، أو بصورة أدق (مفاتيحٌ ــ أقفال) ، من هنا تشكلت الصورة من منظومة علامات تسعى إلى تكثيف  المعنى وتنوعه الدلالي.

عرض مقالات: