اخر الاخبار

يتفقُ أغلب القراء حول قصة “حصار لشبونة” بانها واحدةٌ من الروايات المهمّة للكاتب البرتغالي “خوسيه سرماغو” (1922- 2010). اذ جاءت بالدرس البليغ الذي يتضمّن المعرفة بجوانب عديدة في معنى المدوّنة التاريخية؛ خاصة التي وصلتنا مكتوبة حسب رغبة المنتصر، وفُرِضَتْ كتاريخٍ لابّد ان يُسلّم بهِ مهما تداخلت فيه عدم المعقولية. رواية بطلها متهكّم اسمه “رايموندو سيلبا”، في الستين من عمره، يعمل محققا لكتب التراث الاسباني، يكلف الرجل بتحقيق مخطوطة برتغالية تروي سيرة تاريخية حول “قصة حصار لشبونة”.. واثناء عمله يكتشف ثمة التباس في المواقف، يقع عليه المؤلف/ المحقق.. وتقوم الرواية على طبيعة ذلك التشابك، فيحدد المعالم بدقّة الفاحص الكاشف، معتمدا على تفاصيل دقيقة يعلم بها أكثر من غيره، وكان عليه ان يكون نزيهاً امام القارئ الفاحص الدقيق الذي لا يمرر معلومة خاطئة، وفق المعطيات الاكيدة. الرواية لا تروي العملية عسكرية التي نتج عنها خضوع لشبونة لسيطرة البرتغاليين وطرد الحكام عام 1147م، بل تناقش الوثيقة التي تحمل قصة “حصار لشبونة”، لانها من بين الانتصارات البارزة التي حققها المسيحيون خلال الحملة الصليبية الثانية. حيث يقر “خوسيه سراماغو” ان قيمة الانسان العليا العامة أكثر اهمية من القيمة العليا للإنسان الخاصة، وان التاريخ هو الحقيقة الأكثر ثباتا، وان الاستناد على العواطف لا يصنع تاريخا يمكن ان يفيد أحدا، التاريخ المزيف الذي كتبه الانحلال بغية التزييف وارضاء القوي المتسلط، وليس إرضاء الحقيقة.. لذلك اعتبر “جوزيه سرماغو” من بين أهم كتاب رواية “ما بعد الحداثة” التي من الممكن توصيفها “المسيرة الحتمية للمجتمع المعاصر بتداخله مع ثورة التكنولوجيا”، والتي ما يفتأ ان يظهر فيها جيل حديث يزيح الجيل السابق، او بالكاد يذكر “أن البشرية تعيش في تطور مستمر”؛ الفكرة ذاتها التي كانت الحداثة تفصح عنها، وأن عالمنا يتجه بالضرورة نحو التمام، ويجب ان يكون درس التاريخ عرضة لإعادة النظر في كل زمن جديد، والقارئ في هذا العصر بات واعيا للمحاولات العظيمة التي يتقدم فيها الكتاب الكبار، ويقدمون كتبهم ليجعلوك مراجعاً لنفسك في أكثر من موقف، خاصة في درس القراءة العميقة، والمتواصلة من أجل اكتساب معرفة جديّة. فالقارئ يعهده مطلعا جيداً على تراث امته، والباحث بدأب شديد المخلص لقومتيه البرتغالية، والغيور من أجل ان لا تشوب سمعة بلده أي شائبة، لأنه يرفض رفضا شديدا مجاراة ما جاء في المخطوطة من مغالطات، ويعتبرها سوءة على سمعته وسمعة بلده حتى وان كانت تلك المغالطات كمديح. وقد تدخل من تلقاء نفسه في إضافة كلمات نافية في مقدمة بعض الجمل التي جاءت في المخطوطة الاصلية، ولكن ذلك يكتشف، قبل ان تسلم المخطوطة الى المطبعة، ويصار الى إعادة النظر في منصبه، بعد أن شفع له اخلاصه وحسن السلوك والنيّة، وسلم منصبه الى موظفة تدعى “ماريا سارة” وتقوم بتصحيح ما ارتكبه من أخطاء، ولكنها تكلفه بإعادة القصة من جديد وحسبما يراه، ليتم اصدار كتاب آخر يتحمل فيه مسؤوليته الكاملة في اماطة اللثام عن الحقيقية الغائبة. وقد استطاع “خوسيه سراماغو” تأشير موقف كبير من الترهلات التي تشوب المدونات الملفقة البعيدة التي تزوّر الحقيقة. يتناول ما مرّ به بطل الرواية الذي يعمل كمحقق مخطوطات، يتخذ موقفا من محتوى زائف جاءه مدسوسا ويطلب منه ان يشارك في تحقيقه، ولكنه يرفض معظم ما وجده في الكتاب الذي يعد من بين الكتب المهمة التي تصنع مسيرة التاريخ.

لقد ابتكر سرماغو شخصية “رايموندو سيلبا” ليؤشر بتمرده وتهكمه ان اغلب الكتابات التاريخية يشوبها (العمى الحضاري)، ويتنكر لكل كاتب يستخف بعقل قارئه، ويبدأ من الكتاب الذي كلف بإعادة تحريره عن حدث تأريخي لم يكن عابرا، وانما فيه تمفصلت الكتابة في أكثر من تمثل سردي رائع، الرجل العارف بمعرفته، يكون النص عظيماً بدقة ملاحظاته، الرواية عنده اداة معرفية، يبحث فيها كباحث يمنحك معرفة اضافية.. حيث تنقسم أنواع الوثائق التاريخية إلى: وثائق أرشيفية، ووثائق دبلوماسية، حسب تفصيلاتها. اذ تختلف أنواع الوثائق التي يتمّ الاستناد إليها من أجل معرفة التاريخ واستنباطه، وذلك حسب المعلومات التي تحتويها، ك”الأرشيف التاريخي” وهو الذي يحوي في طيَّاته المعلومات كافة، السياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكرية الخاصَّة بتاريخ بلد ما، وتمّ تفصيل العديد منها حسب الأنواع المتاحة. وقد اختلفت طريقة التوثيق ما بين عصر والآخر حسب رؤية الباحث المتبصّر، ولم تتخذ لنفسها شكلًا واحدًا؛ ويعود سبب ذلك إلى التطور الحتمي على وجه هذه الكرة الأرضية، فكلّما اختلف الزمان اختلفت طريقة التوثيق، من المعروف إن الوثيقة من الأشياء الهامة، والتي يمكن أن تثبت الكثير من المعلومات. (لم يجرؤ مطلقا “رايموندو سيلبا” طوال سنوات حياته المهنية الشريفة على ان يقوم، وهو في كامل وعيه، بخرق القوانين غير المكتوبة لعلم الواجبات الأدبية التي تنظم العلاقة بين عمل المصحح وأفكار وآراء المؤلفين. فالمؤلف معصوم، بالنسبة لمصحح يعرف حدوده، وعلى سبيل المثال، فمن المعروف ان مصحح نيتشه قد ظلم، على الرغم من كونه مؤمنا غيوراً، رغبته في ادخال كلمة “لا” أيضا على صفحة معينة لكي يحول “الإله مات” التي كتبها الفيلسوف الى “الإله لم يمت”- الرواية)، فقرر ان يقلب المعنى بكلمة:  ويسبق المعلومة بكلمة “لا” لتصبح المعلومة معكوسة، وأقرب الى التصديق، جعل المؤلف من بطل روايته قارئاً جيداً لمصادر التراث الإسلامي، لذلك لم يسلم بما جاء في تلك المصادر من كلام، وراح يقلب الكلمة بنقيضتها ليبدل “لا” بـ “نعم”، وتستمر لعبته حتى نهاية الكتاب، وكأنما يشذّبها من الأكاذيب التي شابت المخطوطة. حيث كان الحصار قاسيا جداً على مدينة “لشبونة”، وأحدث ضررا كبيرا لسكانها بحدوث مجزرة تطهيرية، لم تستثنِّ أحد، واحدثت ظلما كبيراً شمل حتى المسيحيين وكأنما لم يربحوها على الاطلاق، (ففي المدينة ناس من المحافظين على دينهم لكنهم كانوا في تقيّة من السيف اذ تنكروا لدينهم ظاهراً، ولكنهم في بيوتهم حافظوا عليه)، وجعل المحقق ينفي ذلك النصر المؤزر..

(كلمة لم يكتبها المؤرخ، وباسم الحقيقة لم يكن يستطيع كتابتها مطلقاً، الكلمة هي “لا”، وعلى هذا فما هو موجود في الكتاب الآن يقول: الصليبيون “لم” يساعدوا البرتغاليين في الاستيلاء على لشبونة، هكذا دوّن، وبالتالي، صار هو الحقيقة على الرغم من انها مختلفة، وما نسميه مزيفاً طغى على ما نسميه حقيقياً، ومن ثم يجب على أحد ما التقدم لحكاية القصة الجديدة، ولكن كيف؟ – الرواية). ليس من واجب المحقق ان يتدخل في غير عمله، ويغيّر قوالب الكلام، الى كلام معكوس.. ان ذلك الامر يسبب حالة حرج شديد للدار، وكان عليها إعادة تحقيق الكتاب من شخص آخر، ولكنها في الوقت نفسه تمنحه ان يكتب كتابه دون ان يلفقه على لسان غيره. وان وقف منه موقفاً حقيقيا، ويؤشر عدم التسليم باي محتوى كاذب. فقام بمراجعة كافة التفاصيل المهلهلة غير المقنعة، كمدونات ضعيفة المحتوى، وضعت لأجل السخرية من طبيعة العقل الانساني والحط ّمن شأنه.

 سرماغو أعاد كتابة “الإنجيل يرويه المسيح” في رواية تشوبها العقلانية حيث تعامل معها تعاملا حقيقيا. وقد اتخذت محاكم التفتيش العقلية الموقف ذاته من روايات عديدة أبرزها اسم الوردة للكاتب “امبرتو ايكو” “شيفرة دافنشي” للكاتب “دان بروان”، و”عزازيل” للكاتب “يوسف زيدان”. وقد قام بطل الرواية “رايموندو سيلبا” بعمل عظيم بموقفه من التزوير التاريخي، ووضع كلمة “لا” في كل جملة لم تتوافق مع الحقيقة، فهو القارئ العارف بقضايا الشرق. اما “هارولد بلوم” وصف ساراماغو بأنه “أعظم الروائيين الموجودين على قيد الحياة” وأعتبره “جزء هام ومؤثر في تشكيل أساسيات الثقافة الغربية المرجعية الأدبية الغربية”، كان بلوم مشهورا بقدرات فائقة في القراءة خلال طفولته، وكان يستطيع أن يقرأ ألف صفحة في اليوم الواحد، ويبدو بالطبيعة الموسوعية للمراجع الأدبية الموجودة في كتاباته أنه بالفعل استطاع الاحتفاظ بكم كبير من المعلومات التي قرأها في طفولته، وبهذا كانت طفولته مليئة بالأدب والشعر، وحفظ الكثير من كلاسيكيات الشعر باللغة الإنجليزية. كما أشاد “جميس وود” بالمنهج الفريد في مجمل أعماله إنه يروي رواياته كما لو أنه شخص حكيم وجاهل في الوقت نفسه”. ولم يشعر باليأس بسبب هذه الرقابة السياسية على أعماله، وانما عاش في فيلته جزيرة الإسبانية (جزر الكناري)، وبقي يكتب حتى وفاته عام 2010.

سرماغو في معظم رواياته يميل الى تعدد الأصوات ويستخدم التناوب الزمني بين الحاضر والماضي، ويفرزها بطباعة بعض الجمل او المقاطع بالخط المائل ليسهل على قارئه التفريق. لكن ذلك لم يظهر في الطبعة التي ترجمها عن الاسبانية “علي البمبي” على الرغم من انها بقيت تعدّ من بين أهم الطبعات العربية، لإنها طبعة تحوي على هوامش توضحيه اضافها المترجم ليسهل قراءتها، حيث جاءت في 485 صفحة من القطع المتوسط، وصادرة عن دار “كلمة – أبو ظبي” 2010.

عرض مقالات: