اخر الاخبار

منذ بدأ تأسيس الحضارات الأولى والشعر رفيق الكائن البشري، ورفيق الإنسانية، رافقها في تكاوينها البدئية، وسعى معها الى التخيلق، والارتقاء بالمشاعر والأحاسيس والهواجس نحو مراتب عليا من عملية الخلق الآدمي، ومن هنا كان أبولو، إله الكلام، والرؤى، والاستبطان، والخيال، والعارف، والسابر لمَواطن الجمال والتولّه الفني والإبداعي.

ولذا كان هناك “آنوش كادرو” أول شاعر على الأرض، ظهر في أرض العراق، ذات التربة المسقية بشعر الآلهة، وظهرت أول شاعرة أيضاً في هذه الأرض هي “ إخدوانا “ ابنة سرجون الأكادي، دون أن ننسى كاتب ملحمة “كلكامش” وقائلها ومدوّنها، وهي تحكي قصة الخلود وتحكي خراب سومر، والبكاء على مجدها، وسنوات عيشها المتآخي مع الحياة والطبيعة، ذلك العيش البكر الذي غاب، ربما بسبب اجتياح الطوفان لمرابعها الأولى.

وبذا كان الشعر يُخلّد الممالك الزائلة، ويؤرخ لمراحلها، وتحوّلاتها، كهوميروس كاتب ملحمة “الإلياذة” اليونانية، ومسطُّر دم المتحاربين، ودموعهم في سطره التليد ذاك.

على وفق هذه الرؤية، لازم الشعر الملاحم الإنسانية دائماً، يُسجّل اللحظات الدرامية، والتراجيديا الإنسانية، وهو خير حافظ ومنوّهٍ، للحادثات، والتفاصيل، والمشاهد اليومية للزمان، والدهر، والأوقات التي تخترق مراحل الحياة.

تحت أفق هذا المنظور، أجدني مع الشعر الذي يميل الى استيحاء المناحي الدراماتيكية، والآفاق اليومية للإنسان، كل شعر لا يتعلق بالإنسان، ومصيره الوجودي لا أعدّه شعراً، والشعر الذي لا يمس المشاعر، والدواخل، ويُحرّك الباصرة على التفكّر، والقلب على الرؤيا، والمشاعر على الوخز والتنبّه، ويصيب منابع الحس بالرجفة، والهِزّة والارتعاش، أو التأسّي في اختراق حاجز الروح ليبكيها، لا أعدّه شعراً، بل مجرد كلام، وليس كما يتوّهم بعض ممن يكتبون الشعر، على أنه شعر سريالي، أو دادائي، أو مجّاني، أوعبثي، فهو في رأيي الشخصي، مجرد سفسطة هذيانية ، لا ترقى الى مستوى الشعر الصافي، البليغ، والحي والمدموغ بحرقة التجربة ونارها الخلاقة.

ولهذا أجد أن المواجع والتراجيديات والفواجع المتواترة، والميلو دراما الإنسانية، تلك المغموسة بمصير البشر، وتحولات حياتهم، أو مآلات المصير الشخصي للكائن، هي الأبقى، والأدعى الى التفكير والتأمل، كتلك التجارب التي كتبها شاعر كالسيّاب، فهو الأبرز والرائد الأمثل لهذا العطاء الدامع، ونجد ذلك في بعض شعر شعر صلاح عبد الصبور، وسعدي يوسف، ومحمود درويش، والماغوط، وأمل دنقل، والرحابنة، ومن أندر هذه النماذج النفيسة، أجده يمسّ دون شك، دواخل القارىء، ويحرّك مشاعر المستمع ليبكي، أو يتنهّد ويطرُق، ثمّ يسرح في تأمل حياته الماضية والحالية، يغوص في موج المآل.

أجل لقد بكيت وأنا اقرأ بعض الشعر المؤثر، ولا سيّما شعر السياب، حين كان مريضاً، أو حين كان يحنّ الى العراق، ويحنّ الى عائلته، والحياة في قريته. أمل دنقل في شعره المتأخر والمتمثّل بديوان “أوراق الغرفة رقم 8” يدعو الى الأسى والحزن وحتى البكاء. مرة بكيت، وأنا استمع ذات يوم لقصيدة كتبها الشاعر سعدي يوسف عن ولدِه حيدر الذي رحل باكراً، وهو شاب حيث كان يقيم في الفيلبين بعيداً عنه، لقد بكيت أنا وزوجتي حين كان يلتقيها في أمسية، كرستها له قاعة الكوفة في لندن، يوم جاء من دمشق ليستقر فيها، طالباً اللجوء السياسي في المملكة المتحدة، لم أعد أتذكر اسم القصيدة، لكنني أتذكر الواقعة.

ثمة القصيدة الأكثر تأثيراً عليّ وتبكيني، أو تدمع عيني، أو أتأثّر حين أقرأها، هي قصيدة “المدينة” لقسطنطين كفافي، شاعر الإسكندرية العظيم، هذه القصيدة مكتوبة بطريقة خالدة، كلما مرَّ عليها الزمن تتجدّد، فتنضو عنها غبار السنوات، لتتألق، وتسمو، وتتعالى من جديد. أحب هذه القصيدة، كونها تتحدّث عن المصير الإنساني، إذ تتوجه بخطابها الى كل كائن بشري معاصر، فهي قصيدة عابرة للأزمنة، وعابرة للأمكنة وعابرة لمسألة النوع البشري، كهُويّته، وجنسه، وديانته، فهي مكتوبة للبشرية جمعاء، وهي تتحدّث عن المصير الشخصي لكائن يحيا ويموت في مدينة عاش فيها، ولكنه كان يحلم بعالم آخر، بمدينة أخرى، بحانة مختلفة، بمقهى مغاير، بشراع جديد، بشوارع أخرى، وساحات أخرى، وزوايا أخرى، وبحر آخر، ولكن هيهات، فالحلم يبقى مجرد حلم، والتطلع لا يتجاوز حدود بيته، والخيال يبقى أسير رؤيته الحالمة بالبعيد، والجديد، والمتغيّر، وحتى لو تحقق الحلم، وحدث المتخيّل، وهذا ما ترويه القصيدة الملحمية الصغيرة، سيكون هذا التغيير كما هو، فالشوارع ستكون هي ذاتها، والزوايا هي نفسها، والخراب الذي لحق به في مدينة الولادة، والعيش والسكن سيلاحقه حيثما ذهب، أي ستلاحقه لعنة المدينة، التي قد رحل عنها وأفنى حياته وشبابه وعمره فيها.

أما بخصوص السؤال عما إذا بكيت أنا أثناء قراءتي لشعري الى الجمهور والمتلقين والنظّارة، فذلك لم يحدث، كوني حين أقرأ شعري الى الناس أبدو في هيئة الباكي، وهذه سِمَتي وخِصلتي في قراءة شعري للآخرين، حيث أبدو في هيئة من يبكي، أو في هيئة المحكوم بتهمة معيّنة، أو بهيئة الذاهب الى مِنَصّة التعذيب، ذلك أنني شديد التوجّس، والخِشية، والترصّد، لنأماتي، وحركاتي، وبوحي الشعري، ولعل ذلك هو رعشة الإبداع وقلقه الجمالي والتعبيري والفني.

وحول ما إذا كان هناك من بكى تأثرا شعري الذي أقرأه وأتلوه، أجل لقد حدث ذلك، مرة جاءت اليّ صحافية صديقة، مرهفة، وقالت لي بعد انتهاء أمسية لي في قاعة الكوفة في لندن: إنك أبكيتني حين قرأت قصيدة “السطح “ في المنازل العراقية، ذلك أن القصيدة ذكرتها بحياتها الماضية في العراق، حين كانت تنام على السطح في الأصياف البغدادية. وأذكر أيضاً حين جاءتني في لندن ذات يوم امرأة بين الأربعين والخمسين من عمرها، وقالت لي بعد انتهاء أمسية لي: إنّ شعري قد حسّن من حالتها المرضية حين قرأتني في أعمال كاملة، فمازحتها وقلت لها: إنك تتوهّمين ذلك، الطبيب هو الذي حسّن من حالتك.كما بكت مرة سيدة ألمانية وأنا أقرأ شعرا في زيورخ، عبر سماع إحدى قصائدي المترجمة، فجاءت بعد انفضاض الأمسية لتشكرني على القصيدة، وقالت : “إن القصيدة ذكرتها بولدها الغائب”، قصيدتي كانت تتحدّث عن الغياب، والحرب، والضياع، وما كتبته بهذ الخصوص كثير، ولم أعد أتذكر هذه القصيدة الآن. أما قصيدتي المُفضّلة والمبكية لي أيضا، فهي قصيدة “المدينة “ لقسطنطين كفافي، بترجمتي عن الإنكليزية.

 

المدينة

قلتُ :

سوف أمضي

الى أرضٍ أُخرى

والى بحرٍ آخر،

قد أجد أفضل من هذه المدينة،

لكنَّ كلَّ محاولةٍ

سيكون محكوماً عليها بالقَدَر،

إنَّ قلبي مثل جثَّةٍ دفينة،

كم سأبقى أُفكّرُ بالبقاء

وسط هذه الخرائب ؟

أنّى دارتْ عينايَ

رأتْ خرائبَ سوداءَ

لحياتي ها هنا،

وكلما أنفقتُ المزيدَ

من الأعوامِ،

بدَتْ مدمَّرةً ومقفرة....

سوف لن تجدَ أراضيَ جديدة،

ولا بحاراً أُخرى،

ستلاحقكَ المدينةُ،

ستتجوَّلُ في الشوارعِ ذاتها،

وستهرمُ بين ذات الجدران،

وستشيبُ بين البيوت نفسها،

لن تصلَ أبداً

الى تلك المدينة،

ليس ثمة أملٌ،

لا سفينٌ

لا طريقٌ....

ما دمتَ قد دمَّرتَ حياتَكَ

في هذا الركنِ الصغيرِ،

فالدمارُ قائمٌ،

 في كلِّ ثنايا هذا العالم.

عرض مقالات: