اخر الاخبار

بات أغلب قرّاء جنس الروايَّة يتفقون على انه المصنّف الذي يقّدم إلى الإنسانية آفاق جديدة، حكاية، ومعلومات، وكشف عميق عن جوهر مهم، لما فيهِ من أفكار كبرى تهمُّ شعوب كوكب الأرض. أهميةُ هذه الرواية البديعة “آزوري” للكاتب الافريقي الأصل كابيلو سيلو دويكر (1974- 2005)، والصادرة عن دار العربي، بترجمة محمد أسامة، في تقانات مهمّة سارت بها كالخط المستقيم الى هدفها، لتحقق غاياتها، التي باتت تستحق أكثر من جائزة، لعدة أسباب:

 اولا؛ احتواءها على العديد من المؤهلات الابداعية التي تجعل منها توازي روايات عظيمة كالتي كتبها دستويفسكي في رواية “مذلون مهانون”، وليام فوكنر في “الصخب والعنف”، وريتشارد رايت في “الولد الأسود”، والعشرات الأخرى من الروايات التي كان ابطالها من المشردين. برغم فوزها بجائزة  “الكومنولث” للعام (2001) عن العمل الأدبي الأول فرع افريقيا. تُعرّف دول الكومنولث بأنّها اتحاد تطوعي يضم 54 دولة مستقلة ومتساوية في إفريقيا وآسيا والأميركتين وأوروبا والمحيط الهادئ، وهي موطن لثلث سكان العالم ويشمل الاقتصادات المتقدمة والبلدان النامية، وذلك بمعدل 2.5 مليار شخص، وتهدف إلى دعم البلدان من خلال شبكة من المنظمات المدنية، والثقافية، والحكومية الدولية. حيث الجوائز تسلط الضوء حول رواية ما؛ لأنها تمسّ قضية المعنيين بها، وتعرضها للملأ، وليس من الضرورة ان تكون تلك الرواية الفائزة متفوّقة بتقانتها، بل بقضيتها، على الرغم من الادعاءات بانها توفرت على مقاربات إبداعية وتقانات فنية.. في حقيقتها؛ دعم لقضية تتبناها الجهة المانحة لتجعلها تتصدر الواجهة.

وثانيا؛ هي الأكثر كشفا وحزناً، وملامسة للأرض التي يطير فوقها الروائيون، ولا يعرف عنها الا ما تبدو عليه من بعيد، لعلها تكشف له عن الأجدى روائياً حيث نقرأ عن أولاد الشوارع بقلم من سكن الشارع، وكان المؤلف منهم، حسب الجغرافية الفكرية حيث ان حرية الفكر تتناسب طرديا مع اعراف الأديان. فالجرأة حسب مفاهيمنا هي الاقتراب بصورة ما من الممنوعات الفكرية التي فرضت علينا مسبقاً.

يحكي (الفتى ازوري بطل الرواية) عن حياة التشرّد في الشوارع الخلفية للمدن التي يكثر فيها الفساد، هذه تخترق العالم الخفي الذي يجهله الكثير من الناس، تروي سيرة مؤلمة لأبعد حدٍّ. حكاية عن الفتى الذي كانت عيناه زرقاوان، وهو ابن الثالث عشرة، وانه واجه التشرّد منذ ان كان في العاشرة، أي بعد ان فقد والداه في حريق، ولم يجد غير الشارع مأوى يسكنه، نشأت علاقات تماس بينه وبين أطفال الشوارع والعصابات في جنوب أفريقيا. خاصة عندما يكون الفرد ضعيفا، حيث لا قانون يحميه، فانه يتعرّض الى أبشع أنواع الاستغلال، تكشف هذه الرواية الرائعة عن دائرة من العلاقات المتوالية، والمتسلطة على بعضها البعض بالاستغلال الى حد انها تسحق كل من تحت نيرها، وقد كشفت عن ادق حيثيات تلك الشخصيات التي تعيش في الانفاق المظلمة.

وقد تصادقت سيرة المؤلف مع سيرة “آزوري” حيث قدم الكاتب نقدًا لاذعًا، ووصفاً جريئاً، وقاس لما يعنيه، بعد ان عايش فتيان الشوارع في مدينة “كيب تاون” الواقعة في الجزء الجنوبي الغربي من دولة جنوب إفريقيا، وتُعَد العاصمة السياحية والعاصمة التشريعية.

(لي عينان زرقاوان، وبشرة داكنة. اعتدتُ ان يحدّق الناس فيّ، خاصةً الكبار. كما اعتدت ان يضربني أطفال المدرسة لزُرقة عينيَّ، كانت تثير كراهيتهم. أما الآن، حينما ينظر الاطفال إليَّ، فإما ان يشتموني، أو ان يبتسموا، بينما يرمقني الكبار بنظرات ذات مغزى- الرواية).. نرى بعيني “ازوري” كل ما يعانيه من معاملات البشر له من حوله من كل الطبقات وكيف يحاول أن يتعايش معها ويقاومها، على سبيل المثال كيف يحاول طفل في عمره أن يعتمد على نفسه ويكسب قوت يومه فيضطر لفعل أي شيء مقابل ذلك. وسامته جعلت منه مستغل جنسيا، مقابل النقود، التي يؤمن بها لنفسه حماية من اذى أكبر.. (تسكعتُ في المدينة ككلب ضالٍّ طيلة اليوم، بينما لكل من سواي وجهة يعرفها- الرواية). ان هذه الرواية عمدت ان تنقل لنا ظروفاً قاسية عايشها الكاتب، وبقيّ يحكي لنا؛ فنرى بعينيه كل ما يعانيه من إساءات البشر له من حوله من كل الطبقات وندرك من خلال الرواية إلى أي مدى قد تصل بشاعة المجتمع الذي يعيش فيه، والذي يتغلب عليه الفوضى والانحدار. رواية مأساوية لأبعد حد. مات أبوه وأمه احداهما قتل الآخر، (تتشابه سيرة الكاتب حيث مات ابواه محترقين، عندما بلغ السابعة من عمره) فنشأ بين أطفال الشوارع، والعصابات في جنوب أفريقيا.. وجعلنا نرى بعينيه كل العلاقات المشينة وما كان يعانيه من المعاملات السيئة مع الذين يعيشون على هامش الضياع في الشارع، مع كل الطبقات، ويقاوم الآلام القاسية من جراء العنف المباشر الذي تعرض اليه، عندما كُسِرَ له ساقه عقوبة له، لعدم امتثاله لأوامر أحد الاشقياء، وبعدها تعرض للحبس، والتجويع، وسوء المعاملة لأيام متتالية، دون أي ذريعة منطقية واضحة. وتمَّ حبسه في غرفة على سطح منزل، كما تمّ الاستحوّاذ على ماله، والذي افترض أنه مؤمن عليه في حساب مصرفي، سرق منه، واجبر على الانضمام إلى العصابة ضد إرادته، وأطلق عليه اسم “الأزرق”. (سرتُ في شوارع المدينة هائمًا. مررت بالمحطة، والمكتبة، واستمتعت بقيلولة في الحديقة. لم يشغل بالي حينها غير التمتع بانتشائي. طارت فوقي حمامات سمينات، وأنا مُستلقٍ فوق العشب، ربما كانوا مجرمين، أو سياسيين أنذال. اتخذ السحاب أشكالًا مختلفة، وتبخر في الهواء الساخن. سيكون تدخين سيجارة أخرى اليوم أمرًا لطيفًا، لكن لا يسعني العودة إلى “جيرالد” خاوي اليدين- الرواية).

تتميز هذه الرواية بنقل التفاصيل من دون شرح، او تبرير، كما تنقل صوراً وحواراً من تلك البيئة، ونقل تفاصيل الاحداث التي رآها بعينه، بدقّة، وكما حدثت، ان ذلك السرّ الإبداعي من التقانات التي اعطت للرواية قيمتها الإبداعية، وجعلتها واحدة من بين الروايات المهمة، رغم سوء اخلاق ذلك المجتمع المستقر في قعر الزجاجة، ترسبات أدّت الى الجريمة، ومن ثم الى الجريمة المنظمة، حيث المتاجرة بكل شيء بدءً من المخدرات والى نهاية قائمة السوء من المخالفات القانونية. تتحول الرواية في فصلها الأخير لتحاكي الواقعية السحرية التي تطرحها روايات “أمريكا الجنوبية” بالواقعية الصارخة “لأمريكا الشمالية”. حيث يمضي “آزوري” هاربا من أجواء المدينة بالصعود إلى منحدرات جبل “تيبل”، ويقضي مع امتداد المساحات الخضر، عدّة ليال حالما بتغيير مسار حياته، بالتحرر من الاقدار التي جعلتهُ محاصرًا، طوال عمره بين اقواسها البغيضة، ومفكرا بالكيفية التي سينال بها آماله الضائعة. وان النهاية المتفائلة لبطل الرواية، لم تتوافق مع مسيرة كاتبها اذ أصيب بانهيار عصبي، مما دفعه ذلك للانتحار شنقًا. للكاتب “ك سيلو دويكر” رواية أخرى هي “العنف الهادئ للأحلام” وقد استطاعت ان تفوز بجائزة “هيرمان تشارلز بوسمان” لعام 2002.

عرض مقالات: