اخر الاخبار

بقيَّ اميل زولا واحدا من بين أعظم المعلمين الكبار للرواية العارف بماهيتها الحقّة، رواياته نظام معلوماتي متكامل، وقد جعلته تلك المعرفة الشاملة بعصره اديبا حقيقياً خالداً.

“جرمينال” واحدة من بين بواكير الكتب الأولى التي وقع القارئ في غرامها، وبقيت تعدّ علامة من بين العلامات الفارقة في الادب العالمي، والأشهر من بين كلاسيكيَّات الأدب الفرنسيّ. حيث دخلت الى المكتبة العربية في عام 1965 كملخص قدمته روايات الهلال المصرية، وبقلم “سعد مكاوي”، واما النسخة الكاملة من الرواية فقد صدرت عن دار كلمات للنشر والتوزيع 2021، ترجمة شكير نصير الدين)، في 684 صفحة.. نتعرف فيها في البداية الى عامل المنجم “ماهو” العجوز المسحوق والمتفاني في عمله حدّ الموت، والذي يعمل معظم ساعات يومه من أجل كسرة خبز، مع افراد عائلته وهم يتناوبون العمل، وبالكاد يحصلون على اجرهم الزهيد الذي يتقلص باستمرار كلما كثرت الضرائب، على العمالة التي بقيت تئنّ تحت ضغط العمل، حيث تضطر زوجته الى ان تدفع جسد ابنتها “كاثرين” ذات الخمس عشرة عاما مقابل جسدها، بقدوم الشاب “اتيان لانتييه” من مدينة “مارشين” إلىٰ قرية عمّال المناجم بحثاً عَن عمل لتتطور الأحداث عِندما يصبح فرداً مِنَ الطبقة الكادحة التي تُعاني مِن سوء الظّروف وتدهور الأوضاع الاجتماعيَّة، الصحيَّة وحتّىٰ الأخلاقيَّة التي يعيشها العمال بصفة يوميَّة.

هذه الرواية تحفة “زولا” التي تتكلم بواقعية عن التقاليد الفرنسية والفوارق الطبقية في المجتمع الفرنسي، وتتحدث عن الأسباب الحقيقة الكامنة في قيام إضراب عمال مناجم الفحم في شمال فرنسا في ستينيات القرن التاسع عشر، واندلاع الثورة الفرنسية.

كذلك تطرق بدقة الى الحركات الثورية التي هزّت فرنسا بين عامي 1787 و1799 ووصلت إلى ذروتها الأولى في عام 1789. وما نشأ من جراء ثورة 1789. حيث تشير إلى نهاية النظام القديم في فرنسا وتستخدم أيضًا للتمييز بين هذا الحدث والثورات الفرنسية اللاحقة في عامي 1830 و1848.

رواية “جرمينال” تطوف بسرد دقيق في تفاصيل حقيقة جعلت من “اميل زولا” الرائد الأول للمدرسة الواقعية في العالم. فالرواية مليئة بالأحداث، مُفعمة بالوصف الجميل والحُرية فِي تأويل المعنىٰ وتستحق الاطّلاع لأنّها تُوحي بالتكامل. صورت ذرات غبار الفحم التي كانت تزكم انفاس الطبقة العاملة المسحوقة، المتداخلة مع كل شيء. حيث كانت تسحق وتهان بأبشع أنواع الاذلال، والناس تسحق بعضها البعض بسبب العامل الاقتصادي المتردي، تفاصيل دقيقة عن عمال مناجم الفحم التي لا تعرف تنفس الهواء النقي من دون ان يمتزج الفحم المسحوق مع حيواتهم فتزكم الانوف وتطلي الرئات بكدس من السواد القاتم، المهيمن على كل شيء. رغم صعوبة وخطورة التعامل مع (الفحم الحجري هو صخر رسوبي يتكون كطبقات من الصخور تُسمى طبقات فحم. يتكون عندما تتحلل النباتات الميتة بفعل الحرارة العالية وضغط الدفن عبر ملايين السنين. تتحول هذه الرواسب، الى خزين من الوقود الأحفوري الذي يتطلب استخراجه كمصدر للطاقة الحرارية، حيث يستخدم كوقود للتدفئة، وكوقود للقاطرات في بداية عهد اختراع الآلة البخارية)، يصادف بداية إضراب العمال مَع بداية فصل شتاء قاسٍ، ليكون بدايةً لفوضىٰ واضحة تزيد الطين بلَّة، مُعاناة مِن أجل حقوق مشروعة. الرواية تختصر الحياة على الرُغُم مِن أنَّ الموضوع المُعالج هو العمل والإضراب، إلاَّ أنّها تصف الحُب، الشباب، الجمال، العائلة، المرض، الموت، المُعاناة والأهم هو الأمل، فبعد إصدار الرواية صرح إميل زولا أَنَّ العنوان كلمة وحيدة تختصر كُلّ الرواية، بذرة النمو التي تُعبر عَن الجوع والاضراب الحاصل عَن ذلك، صورة عَن التجديد والزمن القادم فهو: “ عنوان يصف نمو مجتمع جديد”. شخصية “شوفال” مراقب العمال الانتهازي، الذي استطاع ان ينال من “كاترين” ويجعلها المستغلة. ثمة معادلة صراعات واحدة تكشف الأخرى ف”شخصية “سوفارين” الذي يحرض على اشعال المناجم وتدميرها، على عكس الطرف النقيض “ايثان” الذي يدعو الى التظاهر السلمي من اجل تحسين أجور العمال. نجد “شوفال” يتآمر على “ايثان” ويعمل على التحريض لاغتياله ولكن “كاثرين” تنقذه.. “جرمينال تعني ان المساواة لن تتحقق ابدا - الرواية”. كانت الثورة الفرنسية واحدة من أهم الأحداث في تاريخ كوكب الأرض، إذ غيرت مسار التاريخ الحديث حين كانت سببًا مباشرًا في انهيار الملكيات المطلقة والتأسيس للجمهوريات، وانتهاء بصعود البرجوازية والقضاء على نظام الحكم الديكتاتوري والاعتراف بحقوق الطبقة العاملة، بناء مُحكم للشخصيَّات ناتج عَن بحث ميداني فعليٍّ، ويُعرف “زولا” بأنَّه مِن أوائل مَن قاموا بجهدٍ مُماثل فِي الكتابة مِن أجل مصداقيَّة الرواية، وواقعيّتها، وكان هذا الوصف فِي مُجمله فِي صورة تغلب فيها المأساة والقسوة، إلاَّ أَنَّ القارئ يشعر بسكون الشخصيَّات لأنها شخصيات مقموعة مستغلة بأبشع أنواع الاستغلال.. حيث السقم والمُعاناة. لكنَّ تغيير شركة الفحم لطريقة دفع أجرة عمالها بزيادة الضرائب وتحويلها على عاتق العمال وتمّ الخصم من أجورهم الزهيدة.. زاد من الوضع سوءاً ودفع “بإتيان لانتييه” إلىٰ البحث والسعي لبناء وعي نقابي لدىٰ عمال المناجم وبضرورة التصريح برفضهم لوضعيتهم وبأهمية تحقيق العدل، ليصبح بالتالي قائداً لحركة إضرابيّة تقود العمال إلىٰ مواجهة أرباب العمل المترفين، ونجد أَنَّ الكاتب كان يميل إلىٰ وصفهم بطريقة ترىٰ فيها بعض السخرية. والقارئ تأخذه الدهشة عندما يتعامل مع إميل زولا الذي ولد في باريس في عام 1840. والده ابن مهندس إيطالي. توفي والده، تاركا والدته تقتات على معاش ضئيل. في عام 1858، عمل زولا كاتباً في شركة للنقل البحري، كما كتب مقالات عن الأدب والفن للصحف. كتب في السياسة، لم يخفِ زولا كراهيته لنابليون الثالث، والذي نجح في ترشيح نفسه لمنصب الرئيس بموجب دستور فرنسا، إلا أنه أساء استخدام هذا المنصب وقام بالانقلاب الذي جعله الإمبراطور فيما بعد. لقد كان زولا جرئ الرأي كما أظهرت كتاباته.

اشتهرت رواية الجرثومى في عام 1885، رواية “لوردات الثلاثة مدن”، رواية “روما” في عام 1896 و”باريس” في عام 1897، رواية “نانا” مأساة امرأة مستهترة، ورواية “السكير”، إضافة الى رواية “تيريزا راكان”،في حقيقتها أجزاء من عمل متكامل نصبه كزعيم لمنهج الطبيعية في فرنسا، كلها من صلب الواقعية، وكانت أبرزها رواية جرمينال على خلاف بلزاك الذي في خضم حياته المهنية الأدبية جمع وركز أعماله في عمل بعنوان “الكوميديا الإنسانية”.. منذ البداية في سن ال 28 تواصل في كتابة مشروعه تتبع فيه الآثار “البيئية” التي أثرت في فرنسا في عصر الإمبراطورية الثانية، وتأثيرات انتشار الع

نف وشرب الكحوليات والبغاء التي أصبحت أكثر انتشارا خلال الموجة الثانية من الثورة الصناعية. وصف زولا مشروعه بقوله «أريد أن أصور في بداية عهد الحرية وتلمس الحقيقة عائلة لا يمكنها أن تمارس ضبط النفس في اندفاعها الطبيعي لامتلاك كل الأشياء الجيدة التي يتيحها لها التقدم، فتخرج عن مسارها بسبب زخم الحياة حولها والانقباضات القاتلة التي ترافق ولادة نظام عالمي جديد».

عرض مقالات: