اخر الاخبار

هل يكفي أن نقول أن مظفر النواب شاعراً استثنائي لايمكن أن يتكرر ؟ هل تختزل مفردة شاعراً كونياً حقيقته المتعددة الأوجه الحرباوية العصية على الأمساك والصعبة الأنقياد، وهل يمكن لنا، إعتماداً على مقولة الناقد البنيوي رولان بارت بموت المؤلف ، أن نقرأ شعر مظفر النواب بعيداً عن ملحمة سيرة حياته مناضلاً وإنساناً وفناناً ومتمرداً أزلياً؟ مظفر النواب، بغناه وتعدد أوجهه، يظل يشكل إشكالية كبيرة للنقد الأدبي . فهذا الشاعر الفذ صنع شعريته بأدوات بسيطة لكنها أخاذة ومؤثرة عبر كتابة شعرة مغايرة وبديلة عن المألوف. إذْ لايمكن أن نفصل شعره الشعبي المغموس بطين الأرض وعرق الفلاحين ودماء “ صويحب” ونداء المناجل بكلماته المتلئلئة، لغةً وبلاغةً وإعجازاً، وعن شعره الفصيح بايقاعيته وموسيقاه الداخلية ورؤاه الكونية المفتوحة، وصوته الحزين المتهدج والغاضب معاً ضد كل مظاهر القبح والاستبداد والتخاذل. لنشاكس رولان بارت قليلاً ونؤكد أن شعر مظفر النواب لا يمكن أن ينفصل عن حياته، بل وطريقة ترتيله وغنائه لقصائده بحرقة تصل الى قلوب الملايين، بل وأغامر بالقول ذلك لكي تفهم أسرار القول الشعري للشاعر مظفر النواب، عليك أن تسمع نبضات قلبه وتؤول نظرات عينيه، وحركة يديه، من خلال معايشة يومية حية ومباشرة معه، فعند ذاك فقط يتكشف أمامك سر إعجاز شعره وشخصيته معاً: فهو الشاعر والانسان المناضل والفنان والمتمرد الكوني والعاشق والهجاء: هو الكل الذي لا يتجزأ.

ربما كان الحاجز الذي تخطاه في بداية تجربته الشعرية أواخر الخمسينات ومطلع الستينات : كيف يستطيع ابن المدينة، الحزين والمثقف والرسام، ابن شريعة النواب في مدينة الكاظمية ببغداد وخريج كلية الأداب في جامعة بغداد أن يحل معادلة التوفيق بين لغة أهل المدينة البغدادية ، المفصحة الى حد كبير وبين المفردة الفلاحية الريفية والمغموسة برائحة الحنطة ونبات الحندقوق. لكن إحساساً داخلياً كان يؤكد له أنه سينتصر في النهاية، وهو ما تحقق له لأول مرة عندما كتب قصيدته السمفونية الريفية الخالدة “ الريل وحمد” التي شكلت صدمة جمالية وتعريفية وذوقية للمتلقي العراقي والعربي، ودهشة للمتلقي الريفي ابن الارض والهور والقصب، الذي اكتشف صوته ربما منذ (الملا زاير) ينهمر مثل شلال عذب من فم ابن المدينة البغدادية، وليبدأ بعدها هذا المشوار الطويل والحميم بين هذا الشعر والملايين من المتلقين الوافدين العرب.

لكن الوجه الآخر للشاعر لم يظل مخفياً ولا صامتاً، بل تفجر بالغناء شعراً باللغة الفصحى، لئن توسل في البداية بالقصيدة العمودية شكلاً عروضياً لقصائده ولكنه كان يحمل جمرة الحداثة بين يديه. وهكذا حلق النسر عالياً بجناحين قويين: جناح القصيدة الشعبية بلغة الأرض المحلية وجناح القصيدة الفصحى، بلغة المتنبي والجواهري المحتشدة برموزها واستعاراتها ونكهتها الموغلة في مملكة الموروث الثقافي واللغوي والشعري. وهكذا تكاملت شاعرية مظفر النواب وهي شاعرية لا يمكن لها أن تتجزأ أو تنقسم على إثنين.

لم يكن مظفر النواب في مشروعه الشعري الجزئي هذا مجرد شاعر ذاتي يعبر عن خلجات قلبه ومشاعره كما كان يفعل معظم الرومانسيين، بل كان ينطلق من مشروع إجتماعي وسياسي ونضالي وجمالي متكامل، مكّنه من أن يقرأ هموم الناس وحاجاتهم وعذاباتهم وأن يكتشف أسرار العشق الألف، وأن يدرك حجم غطرسة الحكام العرب الذين كال لهم ما يستحقون ، وجعلهم مجرد أقزام، أمام الجماهير العربية المظلومة التي كسرت حاجز الخوف والتردد وانطلقت متمردة في أكثر من ربيع عربي ضمن مظاهر القمع والاستبداد والفساد والخيانة.

ولأنه كان شاعراً إنسانياً وكونياً فقد وقف الى جانب المظلومين المضطهدين في العالم، ووقف الى جانب القضية العادلة للشعب الفلسطيني وحركة المقاومة الشجاعة فأنشد لهم أعذب الأناشيد، وربما تمثلها ولا تختزلها قصيدته الرائعة عن القدس:

“ القدس عروس عروبتكم

فلماذا أدخلتم كل زناة الليل الى حجرتها

ووقفتم تسترقون السمع وراء الابواب بصرخات بكارتها،

ويغني للطيار الشهيد الذي فجر احدى الطائرات الامريكية :

“ ليس بين الرصاص مسافة

انت مصر التي تتحدى

وهذا هو الوعي حد الخرافة

ووقف الى جانب الشعب الليبي ضد العدوان الغاشم، ودعا الجماهير الى مقاومة الاساطيل والطائرات الامريكية:

إيه الأساطيل لا ترهبوها

قفوا لو عراة كما خلقتم

وسدوا المنافذ في وجهها

والقرى والسواحل والارصفة”

مظفر النواب هو شاعر الأوجه الشعرية المتعددة: فهو شاعر الغضب والاحتجاج والهجاء حد السباب والفحش، لكنه أيضاً شاعر العشق حتى الموت، فيرق أحياناً مثل نسمة ربيعية، ويتفجر حيناً آخر مثل بركان لا يخمد، ويتأمل الحياة فلسفياً يعقل جدلي حواري متسائل. وهو في كل هذا يفيض شعرية وعذوبة ورقة ، فهو يلمح ولا يصرح بصورة مباشرة ولكنه أحياناً يتجاوز ذلك نحو لون من المباشرة الشعارية السياسية والايديولوجية. وعندما سئل عن هذه المباشرة قال باعتزاز أنا أكون مباشراً أحياناً ولا  أتنكر لذلك. 

فها هو في قصيدة “بيان سياسي” يتحدث وكأنه منظّر أيديولوجي:

“ ليست تسوية أو لا تسوية

بل منظور رؤوس الأموال

ومنظور الفقراء.”

ويرق الشاعر ويصفو وهو يتحدث عن الحبيبة. ففي قصيدة “ اعترافتان في الليل والاقدام على ثالثة” يقول :

“ في الهجر جفاني اللؤلؤ

في الوصل رعاني الصدف

كنت أنت حضوري ولاي

حتى يقول:

“ وتهجت النطق

واكتظ حليب اللوز منهما

وانسحب الشرشف تحت النهدِ...

وفي قصيدة “ بالخمر وبالحزن فؤادي” نقرأ :

“ عسل الورد الخامل ريقك

والنهران أراجيف دفوف لئلا

أهتز كما يهتزان

أحدٌ من الشفرة طبيعي.”

في قصيدة “بنفسج الضباب” يكتب الشاعر بلغة اللمس، ويكشف الشاعر في الكثير من قصائده عن نزعة تأملية ذاتية لا تخلو من رؤيا فلسفية شخصية ، وربما تمثل قصائد الشاعر “ وتريات ليلية” إنموذجاً واضحاً على هذا المنحى، لكنه أيضاً يكشف عن بعد غزلي حسي، يتوحد فيها العام بالخاص، كما هو في الحركة الأولى:

“ في تلك الساعة من شهوات الليل

وعصافير الشوك الذهبية

تستجلي أمجاد ملوك  العرب القدماء

وشجيرات البر افيح بدفء مراهقة بدوية

يكتظ حليب اللوز، ويقطر من نهديها اواني الليل

وأنا تحت النهدين إناء.”

ويعمق هذا الموقف التأملي في الحركة الثانية من الوتريات الليلية:

“ في تلك الساعة

حيث تكون الرغبة

فحل حمام في جبل مهجور

واضمّ جناحيّ الناريين

على تلك الاحجية السرية.”

وكثيراً ما يلجأ الشاعر الى تقنيات سردية وحكائية وهو ينسج قصائده كما هو الحال في قصيدة فتى اسمه حسن”

وهي قصيدة عن فدائي فلسطيني وتتخذ من البلاد الحكاية بنية سردية سردية :

“ سقط الكل..

وطوى رشاشته المسكونة بالليل

وعصافير المشمش

تسمع نبض الجسد الزيتون .”

كما نجد هذا ممثل الاهتمام بقصيدة “ عبد الله الارهابي “:

“ الليل وعبد الله أقارب

العرق البارد والنار وحزن الايام

وعبد الله أقارب

يفهم في اللج

وأفضل من يصنع مجذافين ولا يمتلك قارب “

ثم ينعطف الشاعر نحو الهجاء القاسي الصريح للحكام الخونة :

“ واحبك يا عبد الله لنفسك غاضب

وعلى نفسك غاضب

رشاشك يعقد قمته منفرداً ونعالك في قمتهم

إصفعهم عبد الله بأرض فعالك.”

يظل مظفر النواب شاعراً إستثنائياً وعصياً على التجييل والتحقيب، وتظل أسرار قصائده متواربة وهاربة لكنها تشع شعرية وحرقة ومهاندة.

عرض مقالات: