اخر الاخبار

يوم صدور كتاب “عن التعب” احتدم الجدل بين النقاد حول تجنيسه فقد عده البعض رواية “مهمة” للكاتب النمساوي “بيتر هاندكه” المولود عام 1942 الحاصل على جائزة نوبل للآداب للعام 2019. وعرف كنص روائي جديد في حين لم يرتض البعض تسميتها بالرواية.

الحكاية هنا هي الحدث الذي يمثل العمود المحوري لأية رواية. حيث خلت مجموعة النصوص السردية ووردت في الكتاب خاطرات، او قطع سردية يتمعن فيها محور التعب، بعد أن زاوجتها حصيلة خبرة نصف قرن من الكتابة الروائية، استخدم فيها المؤلف أدواتٍ وطرائقَ وأساليبَ وقوالبَ وأشكال معمار وبناء، وجعل منها متوالية نصيّة تربطها الذكريات بشأن موضوعة واحدة، تحت وتيرة الضمير الواحد الذي يحكي عن نفسه، منذ كان طفلا يساير أحلامه مع الغيمات في ليالي الصيف، نصوص جميلة مليئة بالإشارات. (في وقت الطفولة، وفترة الدراسة، وسنوات الحب الأول. ذات يوم، اثناء قداس منتصف الليل، جلس طفل صغير مع عائلته داخل الكنيسة المضيئة، المليئة بالزوار، وسط أغاني عيد الميلاد، ورائحة الصمغ والاقمشة الصوفية. شعر الطفل بشيء من التعب، يتخلله قدر من المعاناة)، وهو من الروائيين “ممَّن أحيَوا العقل الأدبي بلا منازعٍ”، وجعلوا طيلة حياتهم من الثقافة مشغلا إضافيا، “اذ جعلوا “الطريقة التي يجعل بها الناس عالَمَهم مفهومًا ومعقولًا”. كما يقول “رولان بارن” “فإن القارئ، شأن الكاتب، يظل حبيس دائرة خطابية، فكلما زادت ثقتنا في هذا التأمل، كان علينا التشكك فيه، ومثل تلك الأفخاخ السردية هي الآثار الناجمة عن كل كتابة قوية”. ولم يكن يرمز بارت للعلم، وإنما للمتعة؛ إذ اعتنق رؤيةً للأدب تمنح القارئ دورًا إبداعيًّا. حيث قراءة التعب كأفق كامل يُلقي نظرة شاملة في المعطى العام بعد التعب، اذ تنظر إلى النص باعتباره موضوعًا وهو ما يمكن أن نسمِّيه “نمذجة قصيرة الأجل”: موحيةٌ، طريفةٌ ربما، لكن بلا أي ادعاءات نظرية، ولا يوجد سوى احتمال طفيف للغاية في دمجها في نظرية للقراءة. يواصل “بيتر هاندكه” صياغة عبارات نظرية بيد أنه ينجح على نحو متزايد في العثور على طرق لتقديمها بطريقة لم تقوّض من طبيعتها الجمالية. حيث يرصد تجاربه مع التعب بكل نتائجه بعد استراحة أو انغماس، ثم يبدأ بتحليلها، ليكشف لنا ما لم نعرفه من الخفايا “عن التعب” بشتى أنواعه؛ تعبٌ طيّبٌ وتعبٌ خبيثٌ.. تعب الولادة، أو الاجتهاد من اجل التميّز، وبدوره سوف يؤدي الى الانبهار.

تعب عبث بالطفولة، حيث تزامنت الحروب الإقليمية مع أوج التطلّع الذي صاحبه الشعور بالذنب، وعن التعب في فترة المراهقة عندما اثقلت نفقات على البلاد، وبات شباب البلد يتخلله التمرد والغضب، ومن بعد ذلك يحل محله الندم.. ثم (تعب السهاد، وتعب السفر.. تعب “يوتوبي”، وتعب أثيري.. تعب شعوب بأسرها، وتعب فرد واحد.. تعب مزدوج يفرق بين الرجل والمرأة، وتعب شهواني يجمع بينهما إلى الأبد).

تعب النضوج والمواجهة من اجل فناء الفكرة القديمة وارتباطها بالفكرة الجديدة، ليحل النضوج، والتفريق بين هدر الوقت واستثماره. وتعب “السيميوطيقا” حيث لا يمكن افتراض أن كلَّ ما له اسم مهم وكل ما ليس له اسم لا أهمية له، خاصة عندما يدرسون الأشياء التي تؤخذ مأخذ التسليم. أن فكرة “السيميوطيقا”، أو العلم العام للعلامات، التي أخبرنا بها “فرديناند دو سوسير”، مؤسس اللغويات الحديثة في السنوات الأولى من القرن العشرين، فإنها ظلت حتى الستينيات مجرد فكرة، حتى عندما سعى “الأنثروبولوجيون”، ونقاد الأدب وغيرهم تحت تأثير انبهارهم بالنجاحات التي حققتْها اللغويات إلى الاستفادة من استبصاراتها المنهجية.

من بين مؤلفات هاندكه الوافرة (المرأة العسراء) (ثقل العالم)، (رجل الألم الصيني)، (عقيدة سانت فيكتوار) (على نافذتي في الصباح) (كتيّبات بين 1982 و1987)، (دونجوان) (أمس على الطريق)، (قلق حارس المرمى من ركلة الجزاء) في العام 1972، ثم (خطوة خاطئة)، وصولاً إلى (أجنحة الرغبة) الذي حقق نجاحاً باهراً

هاندكه الروائي وكاتب اليوميات والمسرحي والمترجم.. يقيم في باريس منذ العام 1990.

عرض مقالات: