اخر الاخبار

حين وصفته بالأسطورة، اتهمني أحد الأصدقاء، بأن شيئاً من الحنين لظاهرة عبادة الفرد ما زال مختبئاً في زاوية من وعيي. ولكي أتطهر من هذه الخطيئة، أعدت قراءة سيرة الشهيد سلام عادل، فاكتشفت كم كان واهماً صديقي وكم كنت صادقاً بما وصفت به الرجل.

في السيرة أبصرت فتى لم يك قد تجاوز الثالثة والثلاثين من عمره، يوم نجح في توحيد الشيوعيين، سواء من رأى منهم في البرجوازية عدواً للتحرر الوطني ومن رأى فيها حليفاً وقائداً للمرحلة، ووطد تلك الوحدة على أساس الدور الطليعي للبروليتاريا في جبهة معادية للإمبريالية، تقود نضالهم مع الفلاحين والبرجوازية الصغيرة والوطنية، كي تقيم حكومة وطنية ديمقراطية.

ورأيت الفتى النحيل وهو يعتني بالتركيبة الطبقية للحزب، فتزداد نسبة العمال في صفوفه ويتجذر الوعي الطبقي لمناضليه، ولا يُّكلف فيه أحد بمهام الإدارة والقيادة، الاّ على أساس من الكفاءة والثبات والقناعة الفكرية.

ووجدته شجاعاً وهو يتقدم صفوف رفاقه ضد القرارات الفردية والانعزال اليساري والمغامرة والتهور، ومهاباً، لا يتهاون مع الخطأ بحق الحزب، كطليعة ثورية لا بديل عنها.   

وعرفته مدافعاً صلداً عن الانتماء الوطني والقومي، باعتبارهما مكملين للانتماء الأممي، مؤمناً بأن حركتي التحرر القومي، العربية والكردية، هما حركتان تقدميتان ديمقراطيتان في الشكل والمحتوى. ولذا كان أول من أعاد تبني شعار الحكم الذاتي لكردستان، والأبرز في تبني فكرة الاتحاد الفيدرالي المستند لسياسة عربية تقدمية مناهضة للإمبريالية التي فرضت على العرب هذا التشتت.

كما عرفت كيف تمّكن هذا الرجل ورفاقه من الجمع بين أساليب نضالية متعددة، وكيف أداروها بطريقة يعزز بها كل أسلوب تأثير الآخر، وكيف صار يسيراً عليهم التنقل بين تلك الأساليب، من السلمية التي أقرها الكونفرنس الثاني إلى العمل على اسقاط النظام بالقوة المسلحة المستندة لحراك شعبي واسع، حين سلك العدو الطبقي طريق القمع والعنف، بدل الانصياع لإرادة الشعب.

وأشرقت أمام بصري قدرته الفريدة على تحديد الحلقة المركزية للنضال وطبيعة الصراع الطبقي الذي كان مهيمناً، وعلى تبنى الشعارات والمهام التي تساعد الحزب على تبوء مكانه الطليعي في الحركة الوطنية. ولعل أبرز مصداق لذلك، تشخيصه الدقيق لطبيعة سلطة 14 تموز وقائدها، باعتباره ممثلاً واعياً للبرجوازية الوطنية، ومثقلاً بالقلق من توسع نفوذ اليسار. كما ظهرت قدرة سلام عادل في رفضه للحكم الفردي والحرب على الكرد وتحديد المهمة الآنية المتمثلة بقيام نظام ديمقراطي وطني يصون الاستقلال ويكافح ضد الإمبريالية وشرور الحرب. وكذلك اهتمامه الدائم في المحافظة على ما يتم تحقيقه من تقدم، وفي صيانة تنظيمات الحزب وتطوير استعداد الجماهير للمواجهة الكفاحية، جنباً إلى جنب مع تجنيبها الوقوع في شرك تضحيات غير مبررة أو في ملل الركود والانتظار.

وجدت الفتى النحيل هادئاً، دمثاً، شديد الوضوح، مُقنعاً، متواضعاً، دؤوباً على التعلم، فناناً وشاعراً، ملاذاً من قسوة القهر ونوراً يبدد عتمة الزنازين وليالي القنوط الموحشة. ووجدته حين حانت الساعة الأخيرة للوفاء، صامداً بيقين المفكر، أميناً على ما أؤتمن عليه من أسرار الحزب، حد افتدائها بروحه.

ولهذا، يأتي سلام عادل في السادس من أذار كل عام، ليمسح بكفه المدماة على رؤوسنا، نحن رفاقه الفخورين، فنتطهر من شوائب الخيبة، وتتقد في الصدر جذوة العناد، نعض بها على جراحنا، فتصبح قاماتنا عصّية على أن تنحني تحت سياط الحزن.

في السادس من أذار كل عام، ياتي سلام عادل ليوقظ مستضعفي بلادي ويودع فيهم سر بناء وطن جديد. في السادس من أذار، ينحني العالم تخليداً لذكرى الفتى النحيل، ناسياً اسماء قتلته الذين لفظتهم ذاكرة الوطن.

عرض مقالات: