اخر الاخبار

وددت، وأنا اتابع احتفاء الثوريين بذكرى ميلاد لينين، أن أستعيد بعضاً مما قرأته يوماً عنه، فابتدأت بغوركي، الذي وصفه بانه رجل صلب الإرادة، عظيم التفاؤل، لم يمقت شيئاً في حياته أكثر من العنف وآلام البشر. رجل رفض أن يعترف بالبؤس أساساً للوجود، وجعل الخلاص منه أمراً متاحاً. في تلك الأسطر، بدا لي غوركي مفعماً بالفخر، وهو ينقل لنا سخرية لينين من أولئك الذين كانوا يخشون من انهيار إيمانياتهم إذا ما اصطدمت بالواقع، وتأكيداته المتكررة على أن الفكرة بالنسبة له ولرفاقه، أداة عمل وليست نصاً مقدساً.

في كتابات كروبسكايا وجون ريد ودرجينسكي وكلارا زايتكن وغيرهم، كان رفض لينين للتزمت وضيق الأفق شاخصاً، وقدرته على الاصغاء للمختلفين معه، من رفاقه وخصومه وحتى اعدائه، متميزة، ودعواته للاستفادة من منجزات الرأسمالية وتوظيف جهود التقنيين والخبراء من رجال الفترة القيصرية في خدمة الثورة، دعوات مدهشة، خاصة وهي تشدد على مراقبة هؤلاء وإرشادهم، بما يضمن تحقيق خدمات جلية لأهداف النضال الطبقي، مرحلياً واستراتيجياً.

وسحرني في سيرة لينين، ذاك التناغم المذهل بين نقد “قاس” لا هوادة فيه للمخطئين، وتضامن رفاقي متميز معهم حين يصيبون، ليجسّد بدقة وفاء الشيوعيين وليصون وحدة البلاشفة ويحمي ثورتهم الظافرة. كما وجدت كيف ولدت أغلب إسهاماته الفكرية والسياسية من رحم نضال الجموع، وحاجتهم المشتركة لمعالجة العقبات التي واجهتهم، سواء في إشعال شرارة الثورة أو لحماية شعلتها فيما بعد، بما في ذلك التفاعل الإيجابي - في الأعم الأغلب - مع أفكار وسياسات حتى الخصوم والمخالفين.

وفي السيرة، أبصرت الجرأة على إجراء مراجعات فكرية وتنظيمية في اللحظة الملموسة، والانتقال بسرعة من “مسلمات” استوطنت عقول الثائرين إلى بدائل أجدى، حين يدحض الواقع العملي صحة تلك المسلمات، فها هو يعمد لتطوير فكرة استلام السلطة حين نضج الوضع الثوري في روسيا، “مختلفاً” عن أساتذته في تبني النضال البرلماني لتحقيق ذلك، دون أن ينسى التشديد على بناء تحالف يفضي لقيام الدكتاتورية الديمقراطية والثورية للبروليتاريا والفلاحين، قبل أن يعود فيفرز الفلاحين طبقياً ويدعو بحماس للإسراع في التصنيع الخفيف والثقيل والكهربة ومنع رسملة الريف. وها هو يتخلى عن شيوعية الحرب لصالح سياسة (النيب) مؤكداً على أن فترة الانتقال إلى الاشتراكية ستكون عملية تاريخية معقدة، يتطلب انتصارها تطوير القوى المنتجة إلى مستوى لا سابق له، والقضاء على ظروف العوز والفقر.

وحتى وهو يحارب بقوة التصفوية والتوفيقية ويصّر على بناء منظمة ثورية نقية، ذات انضباط شبه عسكري، يتناسب مع ما تواجهه البروليتاريا من استبداد وقمع هائلين، يعيد النظر مراراً بالتفاصيل، فيرفض تحول المركزية إلى بيروقراطية، والديمقراطية إلى ممارسات شكلية، ويطالب بتجديد كل شئ في كل لحظة، ويصر على مشاركة أعضاء الحزب في مناقشة وحل المسائل المتعلقة بسياسة البروليتاريا، وما ينبغي أن تكون عليه التكتيكات، ويشرف بنفسه على تشكيل لجنة لحماية الحزب والدولة من البيروقراطية الناشئة.

وتسجل استجابته لإطروحات روزا ليكسمبورغ حول الربط الجدلي بين المسألة القومية وبين المسألة الاجتماعية – الطبقية، تجديداً مهماً في نظرة ماركس لحق الشعوب في تقرير مصيرها، معتبراً فكرة التفوق القومي خيانة للبروليتاريا وللشيوعية.

وتبقى من أجمل الأمثلة على جرأته في التجديد، قدرته على ترتيب التناقضات، حين تبنّى السلام، لا ليحمي الثورة وروسيا فحسب، بل وكي ينقذ الفلاحين، وقود الحرب، ويكسبهم حلفاءً للبروليتاريا في بناء عالم أفضل للجميع، مستشرفاً الغد، عبر إدراكه لتغير مواقع التناقضات في مجرى الصراع الطبقي.

مجداً لينين في عيد ميلادك الرابع والخمسين بعد المائة، على كل ما قدمته للبشر من خير وجمال.

عرض مقالات: