رغم مرور سنوات على الوعود الحكومية المتكررة بتحسين الواقع الخدمي في محافظة صلاح الدين، لا تزال الأزمات تتفاقم، وفي مقدمتها أزمة المياه التي باتت تهدد الحياة اليومية للسكان، وتعكس فشل مشاريع الإعمار في تلبية أبسط الاحتياجات الأساسية.
حيث تعاني مناطق واسعة من المحافظة من شح مائي حاد، وسط تهالك البنية التحتية، الى جانب المشاريع المتوقفة التي لم تستكمل منذ أعوام. فيما يؤكد الأهالي أن ما يُنجز لا يتعدى أعمالا ترقيعية لا ترقى إلى مستوى الأزمات المتراكمة.
وبين تراجع منسوب نهر دجلة، وغياب التخطيط الاستراتيجي، وضعف التنسيق بين الوزارات والحكومة المحلية، أصبح المواطن في المحافظة ضحية لتقاطع السياسات والإهمال، الامر الذي قاد الى تصاعد التحذيرات من تفاقم الأوضاع نحو كارثة خدمية ومعيشية تهدد الأمن البيئي والغذائي في المحافظة.
ازمة متفاقمة
وانتقد الناشط السياسي ثابت عامر، الأوضاع الخدمية المتردية في محافظة صلاح الدين، مؤكدا أن أزمة المياه في المحافظة لا تختلف عن باقي المحافظات، لكنها تتفاقم بسبب ضعف شبكات التوزيع وغياب مشاريع التطوير الحقيقية.
وقال عامر لـ "طريق الشعب"، انه "هناك عدة مناطق في صلاح الدين تعاني من شح مياه حاد، خصوصا منطقة الديوان في قضاء الشرقاط، إضافة إلى منطقة الشهابي، كما ان قنوات الري المتبقية التي يعتمد عليها الفلاحون أصبحت عاجزة عن تلبية حاجاتهم".
وأضاف أن "هذه الأزمة تتزامن مع انهيار كبير في منظومة الكهرباء، حيث لم يحصل المواطنون خلال الأيام الماضية على أكثر من ساعتين من التجهيز المتقطع يوميا"، مشيراً إلى أن ذلك يزيد من معاناة السكان ويعكس فشل الإدارة المحلية.
وتساءل عامر عن دور الحكومة المحلية في ظل هذه الظروف، قائلاً: "لا أعلم ما هو دورهم، وإلى ماذا يطمحون، ونحن على أبواب الانتخابات".
كما أبدى عامر شكوكه في أداء وزارة الإعمار والإسكان في المحافظة، قائلاً: “لا أعتقد أن الوزارة أنجزت شيئًا حقيقيًا في صلاح الدين. عجلة الإعمار متوقفة منذ سنوات، وما يتم الإعلان عنه لا يتعدى مشاريع بسيطة كإكساء بعض الشوارع، تُصدر على أنها إنجازات كبرى".
وأكد أن "الفساد بات ثقافة راسخة في مؤسسات الدولة داخل المحافظة، والمشاريع لا تُمرر إلا من خلال نسب معينة تُقتطع من داخل صلاح الدين نفسها"، في إشارة إلى تفشي الفساد الإداري والمالي في مختلف مفاصل العمل الحكومي.
وعلى أثر الغضب الشعبي في المنطقة، كان محافظ صلاح الدين بدر الفحل قد اكد أنه "يحاول معالجة أخطاء وزارة الإعمار التي أنجزت بالفعل مشروع ماء الدجيل الموحد، لكن بلا تفرعات"، مؤكدا ان المشروع بحاجة الى 6 مليارات دينار، وأن الحكومة المحلية تحاول إنهاء الأزمة بعد استكمال مد أنابيب بطول 50 كيلومتراً كانت قد باشرت بها قبل عدة أشهر.
يشار الى أن مشروع ماء الدجيل استأنف العمل فيه عام 2013 بعد أن كان متوقفا لمدة 11 عاما، وهو بإشراف وزارة الاعمار والإسكان بالتعاون مع المحافظة.
وتقدر طاقته التصميمة 4000 متر مكعب، ومن المتوقع ان يسد حاجة أهالي قضاء الدجيل والقرى المجاورة له من الماء الصالح للشرب.
تأثير شامل
تقول الصحفية سعاد النجفي من محافظة صلاح الدين، إن "أزمة شح المياه باتت من أخطر الأزمات التي تواجه سكان المحافظة في الوقت الحالي"، مشيرة إلى أن تأثيراتها لم تعد مقتصرة على الحياة اليومية فقط، بل امتدت لتشمل الزراعة والثروة الحيوانية، وتهدد مستقبل الاستقرار المعيشي في مناطق واسعة.
وتضيف النجفي لـ "طريق الشعب"، أن "الأزمة تفاقمت خلال الأشهر الأخيرة بشكل غير مسبوق، حيث سجلت حالات شح مائي حاد في عدد من الأقضية والنواحي، من بينها قضاء الضلوعية وناحية العلم، وكذلك الريف الشرقي لقضاء بيجي، فضلًا عن مناطق العوجة ومكيشيفة جنوب تكريت، إلى جانب القرى الزراعية المنتشرة على أطراف مدينة سامراء، والتي أصبحت تعاني يوميًا من تراجع حاد في مصادر المياه".
وتؤكد النجفي، أن هناك عدة أسباب تقف خلف هذا التدهور الخطر، في مقدمتها انخفاض مناسيب نهر دجلة، نتيجة تقليص الإطلاقات المائية من دول الجوار، إضافة إلى التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة التي أدت إلى زيادة معدلات التبخر، إلى جانب غياب التخطيط الاستراتيجي من قبل الجهات المعنية في إدارة الموارد المائية داخل المحافظة، مشيرة أيضًا إلى وجود تجاوزات على الحصص المائية من قبل بعض المحافظات المجاورة، فضلا عن تهالك مشاريع الري وقدم البنى التحتية، التي باتت غير قادرة على مواجهة هذه التحديات.
وتشير النجفي إلى أن "الفلاحين يعيشون حالة من القلق والخوف على مصير أرزاقهم، حيث عبّر أحد المزارعين في ناحية العلم عن خشيته من خسارة الموسم الزراعي بالكامل، نتيجة الانقطاع شبه التام للمياه وعدم وجود أية بدائل من الدولة، سواء عبر دعم مباشر أو توجيه تقني يخفف من حدة الأزمة".
وتنبه الى أن التداعيات لا تتوقف عند الزراعة فقط، بل تشمل جوانب أخرى من الحياة، إذ تسبب شح المياه في هجرة بعض العائلات من القرى إلى المدن، ونفوق أعداد كبيرة من المواشي بسبب الجفاف، كما ارتفعت أسعار المياه المعبأة بشكل كبير، مع اعتماد الأهالي بشكل متزايد على صهاريج المياه كحل مؤقت لا يمكن أن يستمر طويلاً.
وتختتم النجفي حديثها بالتأكيد على أن أهالي صلاح الدين يطالبون بتدخل حكومي عاجل، يتضمن التفاوض مع دول الجوار لزيادة الإطلاقات المائية، وتفعيل مشاريع التحلية وحفر الآبار، فضلا عن تقديم دعم فعلي للفلاحين بمستلزمات الزراعة والري الحديث، مؤكدة أن ما يحدث في المحافظة اليوم هو إنذار حقيقي بكارثة بيئية ومعيشية إذا ما استمر الإهمال وغياب الحلول الجادة.
تهديد للوجود
وفي هذا الصدد، قال إدريس العيساوي، مدير مكتب مفوضية حقوق الإنسان في المحافظة، إن "أزمة المياه المتفاقمة لم تعد مجرد مشكلة خدمية، بل تحوّلت إلى تهديد مباشر لحقوق الإنسان الأساسية"، مشيرا إلى أن هناك تداخلا واضحا بين شح المياه وتدهور الأوضاع المعيشية والصحية والاقتصادية للآلاف من المواطنين.
وأضاف لـ "طريق الشعب"، أن "الارتفاع الكبير في درجات الحرارة، إلى جانب التلوث الناتج عن تصريف مياه الصرف الصحي في الأنهار، ساهم بشكل مباشر في تفاقم الأزمة"، مؤكدا أن "النقص الحاد في المياه النظيفة انعكس على الحق في الحياة والحق في الصحة، حيث أدى الاعتماد على مصادر مياه غير صالحة للشرب في بعض المناطق الريفية إلى انتشار الأمراض، وسط غياب أي بدائل حقيقية".
وأوضح إدريس، أن الكثير من الأهالي، خصوصا في المناطق النائية، باتوا يعتمدون على مياه ملوثة وغير معالجة، سواء من الأنهار أو من مصادر سطحية محدودة، مشيرا إلى أن تراجع منسوب نهر دجلة وتزايد كميات الملوثات المرمية فيه زاد من تعقيد الوضع، حيث لا تتوفر مياه آمنة للاستخدام البشري.
وبيّن أن هذا الوضع لا يهدد الصحة العامة فحسب، بل يطال أيضًا الحق في الغذاء، باعتبار أن محافظة صلاح الدين تعتمد بنسبة تزيد على سبعين بالمئة على الزراعة، وبالتالي فإن أزمة المياه انعكست على انخفاض إنتاج المحاصيل الزراعية بشكل كبير، ما يهدد الأمن الغذائي للعائلات الفقيرة، خاصة تلك التي تعتمد بالكامل على الزراعة كمصدر دخل وحيد.
وتابع أن انخفاض مناسيب المياه وعدم توفر مصادر ري كافية أديا إلى تفاقم البطالة، وخلق موجة نزوح من المناطق الريفية إلى مراكز المدن، حيث اضطر كثير من الفلاحين إلى ترك أراضيهم بعد أن عجزوا عن الاستمرار في الزراعة.
وزاد بالقول أن هذه الهجرة خلقت مشكلات أخرى، حيث استقر العديد من النازحين في مناطق عشوائية تفتقر إلى الخدمات الأساسية، ما تسبب في انتهاكات إضافية لحقوقهم في السكن والتعليم والصحة، فبعض الأسر اضطرت إلى سحب أطفالها من المدارس بسبب الفقر أو الحاجة إلى العمل، بينما لجأ آخرون إلى مهن هامشية في الشوارع مثل بيع الحلوى أو الماء على التقاطعات لتأمين لقمة العيش.
وأكد إدريس، أن أزمة المياه لم تعد مجرد قضية تخص وزارة الموارد المائية أو الزراعة فقط، بل باتت قضية إنسانية بامتياز، تتطلب تدخلا حكوميا عاجلا واستراتيجية وطنية متكاملة تأخذ بنظر الاعتبار الأبعاد البيئية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، داعياً إلى اعتبار المياه حق أساسي من حقوق الإنسان، والعمل على توفيره بشكل عادل وآمن لكل المواطنين.