يشهد نهر البدعة في محافظة ذي قار انخفاضاً غير مسبوق في منسوب المياه، ما تسبب بأزمة حقيقية لسكان المناطق القريبة منه، خصوصاً المزارعين ومربي المواشي الذين يعتمدون عليه بشكل مباشر. ومع استمرار الجفاف، تحولت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية إلى أرض قاحلة، فيما تكافح العائلات لتأمين مياه الشرب، وسط غياب واضح للحلول من الجهات المعنية.
شريان حياة الناس يموت عطشا
وحذر المواطن والباحث البيئي سجاد عبد المنعم، من أهالي محافظة ذي قار، من تفاقم أزمة الجفاف في مناطق واسعة من المحافظة، لاسيما في المناطق المحيطة بـ نهر البدعة، الذي يشهد انخفاضاً حاداً في منسوب المياه منذ أشهر، وسط غياب أي حلول ملموسة من الجهات المعنية.
وقال عبد المنعم لـ "طريق الشعب"، إن "الوضع أصبح لا يُطاق. نهر البدعة كان شريان حياة لآلاف العائلات، خو اليوم مجرد مجرى ترابي شبه جاف، لم يعد يصلح لا للري ولا للشرب". وأضاف "نحن نعيش على الزراعة وتربية المواشي، والجفاف دمر كل شيء. الأراضي تحولت إلى أرض بور، والمزارعون خسروا محاصيلهم، فيما ماتت أعداد كبيرة من الأغنام بسبب العطش ونقص العلف".
وأشار إلى أن الأهالي في القرى الواقعة قرب النهر، خصوصاً في أطراف قضاء الغراف والنصر والجبايش، يضطرون إلى شراء المياه عبر الصهاريج التي تصل بأسعار مرتفعة، قائلاً: "صرنا نشتري المياه مثل الوقود، وهذا عبء لا تتحمله العائلات الفقيرة".
وأعرب عبد المنعم عن استغرابه من "الصمت الرسمي"، مضيفاً "طرقنا أبواب المسؤولين، رفعنا مناشدات، لكن لا أحد يسمع. هل نحن نطالب بالمستحيل؟ نريد الماء فقط".
وتابع انه "حتى الحيوانات البرية بدأت تنفق أو تهاجر من المنطقة. هذا الجفاف لا يهدد المزارع فقط، بل يهدد توازن الحياة بالكامل في ذي قار".
وطالب عبد المنعم الجهات الحكومية، وخصوصاً وزارة الموارد المائية ووزارة الزراعة، بالتدخل العاجل من خلال زيادة الإطلاقات المائية إلى نهر البدعة، وإنشاء مشاريع بديلة لضمان وصول المياه إلى المناطق المتضررة، مع تعويض المتضررين من المزارعين والمربين. واختتم حديثه بالقول: "إذا استمر الوضع على ما هو عليه، سنشهد هجرة جماعية من الريف إلى المدينة، وسنخسر ما تبقى من البيئة الزراعية في ذي قار".
البدعة.. أهمية تاريخية واستراتيجية
من جانبه، قال حيدر السعدي، مسؤول لجنة التصحر والتغيرات المناخية في محافظة ذي قار، أن موضوع الشحة خلال هذا الوقت متوقع. هناك تحرك فعلي من قبل الجهات المعنية، سواء المديريات القطاعية أو الحكومة المحلية، لمواجهة أزمة الجفاف التي تشهدها المحافظة، ولا سيما في منطقة نهر البدعة.
وأوضح السعدي لـ "طريق الشعب"، أن "نهر البدعة يُعد من الموارد المائية الحيوية التي تغذي مناطق واسعة في شمال شرق المحافظة"، مشيراً إلى أن النهر يعتمد بشكل كبير على الإطلاقات المائية القادمة من سد الكوت، مروراً بـنهر الغراف.
وأشار إلى أن هذه المنطقة ذات أهمية تاريخية واستراتيجية، حيث كانت محط اهتمام حتى في زمن الاحتلال البريطاني لما لها من دور بيئي وزراعي وسياحي. واكد ان الجفاف يعود الى تراجع الاطلاقات لنهر دجلة من قبل الجانب التركي، او لعدم التزام المزارعين بالخطة الزراعية.
وأضاف أن النهر لا يقتصر على كونه مصدر ري، بل يُستخدم أيضاً في تأمين مياه الشرب، حيث تعتمد عليه مضخات المياه التي تغذي المناطق السكنية في عموم المحافظة. وتابع ان "أي تهديد لتدفق المياه عبر هذا النهر ينعكس مباشرة على مشاريع الري، ومياه الشرب، وحتى الحياة اليومية لأكثر من مليونين ونصف المليون نسمة في المحافظة".
نظام مائي هش
وأوضح السعدي، أن أزمة المياه الأخيرة كشفت هشاشة النظام المائي، إلا أن التدخلات العاجلة ساهمت في تفادي الأسوأ، إذ تم التنسيق مع وزارة الموارد المائية لزيادة الإطلاقات المائية، وتخفيض الخطة الزراعية في بعض المحافظات بهدف إعطاء أولوية لمحافظة ذي قار. وأسفر ذلك عن ارتفاع مناسيب المياه تدريجياً، حيث ارتفعت خلال ساعات بمقدار 25 سم، وهو ما ساهم في استعادة تشغيل معظم المضخات وعودة المياه إلى المناطق المتضررة.
وأكد أن الحكومة المحلية، تواصل اجتماعاتها مع رئاسة الوزراء والجهات ذات العلاقة، ضمن إطار خطة الطوارئ لمواجهة تحديات الشحة المائية وارتفاع درجات الحرارة، مبيناً أن الخطة تشمل أيضاً تعاوناً مع مديرية الدفاع المدني، الموارد المائية والشباب والرياضة، وقيادة الشرطة، وبقية الدوائر ذات العلاقة لضمان الاستجابة الشاملة.
وخلص السعدي الى التأكيد على أهمية استدامة الموارد المائية وتكثيف التنسيق بين المحافظات الوسطى والجنوبية والمركز الاتحادي لضمان عدالة التوزيع المائي وتحقيق الأمن المائي لذي قار، لا سيما في ظل التحديات المناخية المتفاقمة.
فشل سياسي!
وانتقد الناشط المدني سجاد ستار، من محافظة ذي قار، تدهور الأوضاع المائية في جنوب العراق، مؤكدًا أن جفاف سدة البدعة لا يُعد كارثة طبيعية، بل نتيجة مباشرة لـ "فشل سياسي مزمن" امتد لعقود.
وقال ستار لـ "طريق الشعب"، إن "جفاف نهر البدعة أثر بشكل مباشر على سكان المناطق المحيطة، حيث تضرر الصيادون من غياب المياه، وانعدمت مصادر الشرب والغسل للأهالي، وتلفت البساتين والأراضي الزراعية التي كانت تعتمد على النهر في ريّها". وأضاف أن المنطقة التي كانت تُعرف بطابعها السياحي وتُعد متنفسا للعوائل من مختلف أنحاء ذي قار، فقدت ملامحها بالكامل.
وأوضح أن نهر البدعة، الذي يعود إنشاؤه إلى عهد الاحتلال البريطاني، كان يعد من أهم مشاريع الري في الجنوب، فيما يعتبر نهر الغراف الشريان المغذي لشمال ذي قار. ومع ذلك، تُركت سدة البدعة اليوم لتجف، في ظل صمت حكومي مطبق.
وقال ستار: "هذه ليست كارثة طبيعية، بل انعكاس لفشل سياسي عمره أكثر من عشرين سنة، تخللتها شعارات كاذبة ووعود فارغة. الحكومات المتعاقبة عجزت عن تأمين أبسط مقومات الحياة لأبناء الجنوب".
وأشار إلى أن سدة البدعة، التي كانت تشكّل مصدر مهم لإنقاذ الأراضي من الجفاف، تُهمل اليوم وكأن الجنوب "خارج حدود العراق"، على حد وصفه. ولفت إلى أن ضعف التنسيق الإقليمي، غياب التخطيط، والصمت المتواصل من الجهات الرسمية، إلى جانب الفساد في ملف إدارة المياه، كلها عوامل أسهمت في هذه الكارثة البيئية والإنسانية.
وخلص الى طرح تساؤل: "أين وزارة الموارد المائية؟ وأين النواب الذين لا يظهرون إلا في مواسم التصويت؟"، مضيفاً أن المشكلة "ليست فقط في الجفاف، بل في منظومة سياسية عطّشت الناس، ولا تنظر للجنوب إلا كخزان انتخابي".