اخر الاخبار

من الواضح ان كل منجز جمالي حقيقي له قاعه المختلف وذخيرته المعمدة برؤى ومضامين الشاعر والتي يستطيع من خلالها أن يعطي مثابة أولى لطبيعة متبنياته داخل النص. ولا شك أن القصيدة العامية العراقية في فترة السبعينات هي التي فتحت النافذة الاولى نحو الشمس منطلقة بكل ما تحمله من عوالم غير تقليدية من ناحية اشتغالها المستجد وهيكلها العام غير النمطي كما هو معروف قبل هذه الفترة، وتوظيف اللغة واستحداث الصورة المتنورة التي تدل على دراية وعمق صاحبها، لتزيل الكثير من الجمل المستهلكة والمترهلة ليحل محلها سياق مكتنز له عالمه المتفرد. وينسحب هذا على الاغنية التي شكلت مساحة مهمة وواسعة في ذائقة الفرد العراقي لتكون الكثير من جملها شاهدا على كل ما هو مدعاة للأمل والمحبة ، لتبقى راسخة في اذهاننا كوثيقة مضيئة على اختلاف المراحل السياسية والمجتمعية. وانحسار تأثير الشعر العامي في العقدين الأخيرين مقابل بروز الرواية وظهور عدد من الشعراء إلى الساحة ممن لا يتمتعون بمقومات الإبداع مقارنة مع ما حصل في عقود سابقة مثل الستينات والسبعينات والثمانينات على سبيل المثال، يوم كانت قصائد الشعر الشعبي ذات تأثير عميق في المجتمع ويرددها العشرات، وتظل كلمات وأبيات هؤلاء الشعراء حديث المقاهي والمجالس والبيوت .. اجرينا استطلاعاً مع نخبة من نقاد وشعراء القصيدة العامية: ما هوَ تأثير الشعر الشعبي العراقي في المجتمع ؟ ولماذا لم يشهد الوسط وجود قصائد مؤثرة سياسياً او اجتماعياً ؟ 

الإيقاع الزمني وتاثيره

الشاعر والكاتب عباس الغالبي قال : تأثير الشعر في المجتمع قائم بصورة أو بأخرى، طالما كانت ثمة علاقة قائمة بين الشاعر وجمهوره.. الحديث هو عن حجم التأثير الذي يتركه الشعر اجتماعيا وسياسيا. وهو برأيي يندرج في خانة أوسع، هو تأثير الأدب بكل أنواعه وأشكاله في المجتمع، والذي شهد دوره تراجعا واضحا مقارنة بما كان عليه الحال في عقود سابقة. ويعود ذلك إلى جملة أسباب متداخلة لا أتردد في القول من أن النص كقيمة إبداعية وجمالية من بينها. أضاف قائلاً الغالبي :  أما قضية المقارنة بين النص السبعيني ومدى تأثيره الذي كان عليه والدور الذي لعبه، قياسا بما هو عليه النتاج الشعري حاليا، فأعتقد أيضا أنها مقارنة غير كاملة. فتأثير النص السبعيني لا يعود إلى قضية ذاتية تتعلق بالنص نفسه، قدر ما يرتبط الأمر بمواضيع خارج النص.. الشاعر السبعيني هو امتداد لما قبله من مراحل شهدت سمة مشتركة بين الشعراء والمبدعين تتمثل في توجهاتهم الإيديولوجية والسياسية، وقتها كانت شرائح عديدة من المجتمع تنزع النزعة ذاتها، وهذا اوجد علقة فكرية بين الشاعر والجمهور وحينها لابد أن تجد النصوص التي تعبر عن أفكار وهموم وتطلعات الناس مكانها في الذاكرة. مشيراً :  وهنا بالتحديد يمكن تلمس الفرق الذي أؤمن به بين شعر يعبر عن هموم الشعب وعن قضايا ذات ثقل وتجليات فكرية وثقافية، وله القدرة على تحريك المخيال الجمعي، وبين شعر عامي لا يمتلك سوى أنه يكتب باللهجة الدارجة ويحاول أن يلتقط هوامش مبتذلة ويعيد سرد واجترار ما قيل، من دون أية إضافة إبداعية أو فكرية أو جمالية.

التواصل الاجتماعي

فيما أوضح الشاعر والناقد ريسان الخزعلي : اللهجة الشعبية عموماً هي الأقرب  الى مدركات المجتمع ، كونها مشتبكة مع اعصاب الناس في يومياتهم وحديثهم  ،والشعر الشعبي يتداوله المجتمع ترديداً وغناء وحكايا ، وتكاد تكون اشعار الغناء العراقي  المكتوبة بالشعر الشعبي تُمثّل 95% من شعر الأغاني . كما أنَّ الشعر الشعبي يشغل مساحته الواسعة في المواكب والمجالس والعزاءات الحسينية .....وهكذا تشكّل في الوعي والتذوق منذ عقود واكتسب المقبولية المعروفة . الموقف الشعري الان لفحته رياح الجهل والاستسهال وضعف المدركات الثقافية وانعدام التجارب الحقيقية وركاكة المواهب .وأضاف :  الشعراء الرواد كانوا مثقفين وأصحاب تجارب ومواقف فكرية وسياسية  بدءاً من التجربة النوابية التجديدية والتجارب الستينية والسبعينية اللاحقة لها . إن التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية  والنفسية لها تأثيرها  المباشر على بناء وتكوين الفرد ثقافياً واجتماعياً ومعرفياً . وما يحصل من تراجع هو سمة الفنون الابداعية بصورة عامة ولا يقتصر على الشعر الشعبي .وتابع :  الشعر الشعبي بشعرائه المثقفين وبنماذجه العالية ما زال تداوله محدوداً بسبب الأمية السائدة وانعدام المعايير  الجمالية والفنية في  وسائل الاعلام التي تتبنى الشعر الشعبي. كما أن الاجيال الحاليةبعيدة عن مجالات الثقافة العامة وانشغالها بما هو سطحي وعابر ... ولايمكن اعتبار ما يُنشر أو يُقرأ  الان شعراً شعبياً وإنما نظم متدن بالقياسات الفنية الابداعية .

صراع الأجيال

وتحدث الشاعر والكاتب وسام سباهي عن صراعات الأجيال  : الصراع بينَ النوعَ الشعري والكم الشعر افرزَ جيلا” سابقا” منتصرا” بوضوح والاكثر من ذلك هيَ الحُقبة الزمنية والسياسية والتوجهات وتنوع وتعدد الثقافات والاختلاط والتلاقح الفكري فيما سلف والعمل بجديّة على إيصال صوت النص من خلال النوافذ الضيقة جدا”  حتى تكللت جهودهم الكبيرة بعددهم القليل بنجاحٍ واضح لا سيما انّ الجميع من الجيل الحالي والاسبق مرحليا” لا يعي الفرق بين الحداثة والحداثوية والسياقات الروتينية في كتابة النص الحديث والاسفاف في الطرح وتسفيه المضمون من خلال رداءة النصوص المستنسخة من الجيل الذهبي الذي ازاح الستار عن النص وجمال السريالية والرمزية التي دثرتها النصوص المُعسكرة في فترات الحروب التي توالت بعد فترة السبعينات  والجدير بالذكر ان الصوت الغنائي واللحن المواكب لذلك الجيل كان بواية لتصدير النص بفكرته واحساسه وعقيدته ومضمونه والابعاد النفسية والسياسية والاجتماعية التي كانت مقترنات مع بعضها في تلك الفترة وأشار سباهي قائلاً : اما الحديث عن الجيل الذهبي فهوَ جيل واكب النص ولم يواكب الفترات الزمنية السالفة ، ولم يتعكّز على روحية وموضوع ومفاهيم الجيل السبعيني السابق لكنّهُ خلقَ روحا” من روحٍ أخرى  واستطاع ان يستمر بإيجاد المساحات الذهنية لتلقّي نتاجاته من خلال صنع متلقّي يستطيع تحليل وتفكيك الجملة المعقّدة وتأويلها الى حيثُ يشاء الكاتب .

الفرد وثقافته

بين الشاعر والكاتب والإعلامي باسم الخاقاني :  لم يكن الشعر عموماً طارئاً على الثقافة العراقية بل هو اللبنة الأساسية في تشكيل ثقافة الفرد العراقي، لهذا الأمر بعداً جينياً لما تحمل هذه الأرض القديمة من أسرار شعرية، لأنها الأم التي ولدت أولى القصائد وأول الشعراء والشاعرات، وقد يشكل الشعر مادة أساسية قديماً في توجيه المجتمعات المتعاقبة من قبل كهنة المعابد، وأضاف : وللشعر الشعبي العراقي حضوره الخاص ورونقه في الثقافة العراقية، وتمثل القصيدة الشعبية منظومة خاصة منفردة تمثل هويتها وكينونتها ولا يمكن أن تنصرف بوجودها الى جنس أدبي آخر، أما تأثيرها على المجتمع العراقي، ببساطة جداً إن القصيدة الشعبية هي أكبر مؤثر ثقافي أدبي له وجود وتأثير في المجتمع، بفعل إنتشار الأغاني والأناشيد الدينية والقصائد الشعرية وتابع : أما كيف أختلفت أداة التأثير بين الجيل الاول والجيل الحالي للشعبية العراقية، هناك كثير من النقاط أوجزها في إن الحياة السياسية والإجتماعية والإعلامية والتكنلوجية وغيرها تختلف تماما عما في السابق، ولكل هذا تأثير بكيفية خلود النص، ورغم ذلك إننا نعيش بمرحلة فرز سيأتي يوم في المستقبل ستجد فيه خلود للكثير من قصائد اليوم بفعل “الإنسان يحن الى الماضي” وهناك وثائق شعرية جمالية كثيرة عند الاجيال الحالية بمختلف موضوعاتها وتوجهاتها وقد تحمل قصائد اليوم تفوق كبير على قصائد الجيل السابق وهذا ضمن المقاييس النقدية مع حفظ الإحترام  لهم كونهم المؤسسين الاوائل وأصحاب الفضل لأبتكارات شعرية كثيرة أثرت في تحول القصيدة العراقية وجعلها ذات مكانة مهمة،  الا إن غياب الناقد المجايل، ووجود نقّاد مؤدلجين للماضي الشعري وانتماؤه السياسي والجيلي، عرّض الجيل الحالي الى قياسات واهية لا تمت للحقيقة بصلة، ودائما ما تكون قياسات الناقد القديم على القصائد السطحية الحالية، وهذا ما يحسب على الناقد الخائف من الخوض بالقصائد الجيدة.

عرض مقالات: