اخر الاخبار

تواجه مدينة كركوك أزمة بيئية خانقة بسبب الانتشار الواسع لمكبات النفايات العشوائية في معظم أحيائها، في ظل غياب الحلول الجذرية من الجهات الخدمية المعنية، ما اضطر السكان لتحمل عبء النظافة بأنفسهم، في مشهد يعكس تراجع واضح في مستوى الخدمات الأساسية.

غرامات غير مفعلة

تقول المواطنة مريم عزيز، إن "قائممقامية كركوك فرضت غرامة مالية قدرها 250 ألف دينار على كل من يُلقي النفايات من المركبات، إلا أن القرار لم يُفعل على الأرض، ما أفقده قيمته الرادعة". وتضيف: "الأزمة أعمق بكثير من فرض غرامات، نحن نتحدث عن مدينة تُخنق يوميًا تحت وطأة الإهمال المستمر وسوء الإدارة".

وتصف عزيز لـ "طريق الشعب"، الوضع البيئي في بعض مناطق المدينة بأنه "كارثي"، مشيرة إلى أن مكبات النفايات تحولت إلى مشهد مألوف ومصدر دائم للأذى الصحي والبيئي، مشيرة الى انه "عندما تصل شاحنات النفايات لتفرغ حمولتها في الساحات المفتوحة، تنتشر روائح كريهة يصعب تحملها، وتزداد سوءا مع ارتفاع درجات الحرارة، حتى إن المرور قرب هذه المواقع بات مستحيلًا".

ورغم ذلك، تشير إلى أن "الوضع الحالي، رغم سوئه، يعد أفضل بقليل مقارنة بالسنوات السابقة، لكن ذلك لا يلغي الحاجة الملحة لحلول حقيقية ومستدامة".

وتؤكد عزيز، أن كثيرا من سكان كركوك اضطروا إلى اللجوء لوسائلهم الخاصة لمواجهة هذه الأزمة، فتقول ان "الأهالي يدفعون من مالهم الخاص لعمال النظافة من أجل جمع القمامة من الشوارع، خصوصًا في الأحياء التي تُهملها البلدية بشكل تام، لكن هذه الحلول الفردية لا يمكن أن تحل محل جهد مؤسساتي منظم".

وتابعت القول: انه "في المناطق الفقيرة، أصبح السكان هم من يتحملون مسؤولية تنظيف بيئتهم، بعد أن تخلّت الجهات المختصة عن دورها، ما يكرّس حالة من اللامبالاة والإجهاد المجتمعي".

وتختتم مريم حديثها بالقول ان "النفايات والروائح والاختناقات ليست مجرد مشكلات خدمية عابرة، بل مظاهر يومية لفشل الإدارة المحلية في حماية الصحة العامة والبيئة. لقد أصبحت مكبات النفايات منتشرة في كل مكان، وأحيانًا قرب أنابيب المياه والأنهار، ما يخلق بيئة خصبة للفطريات والملوثات التي تسبب حالات تسمم غذائي وإسهال، وقد تجلب أمراض خطيرة مثل التيفوئيد والكوليرا".

البلدية توضح عملها

وكانت بلدية كركوك قد كشفت في وقت سابق أن المدينة كانت تنتج ما بين 1100 إلى 1200 طن من النفايات يوميا خلال السنوات الماضية، ما شكل تحدي كبير أمام فرق التنظيف والدوائر الخدمية. لكن في المرحلة الحالية، تؤكد البلدية أن اعتماد آلية جديدة لتوزيع المهام بين شركتين أهليتين ساهم في تحسين مستوى النظافة ورفع كفاءة العمل الميداني.

وأوضح المهندس تركيش عز الدين من بلدية كركوك، أن البلدية قامت بتقسيم المدينة إلى جانب كبير وآخر صغير لتسهيل إدارة أعمال التنظيف والخدمات.

وأضاف تركيش لـ "طريق الشعب"، أن "الجانب الكبير يشمل مناطق مثل مستشفى آزادي، شورجة، القادسية، وحي العسكري الكبير. فيما يشمل الجانب الصغير طريق بغداد، حي القدس، حزيران، وغيرها من المناطق السكنية".

وبين تركيش أن أعمال التنظيف في كلا الجانبين أُسندت إلى شركتين أهليتين مختلفتين، بموجب عقود قام بتنظيمها مجلس محافظة كركوك، مشيرا إلى أن الشركتين باشرتا عملهما منذ بداية العام الجاري.

وأكد أنه "بفضل هذا التعاون، إلى جانب دعم المحافظة وكوادر بلدية كركوك، تمكنا من حل 75 في المائة من أزمة تراكم النفايات في المدينة".

ولفت إلى أن السنوات الماضية كانت صعبة من الناحية التشغيلية بسبب غياب الميزانية والدعم المالي الكافي، ما اضطر فرق البلدية إلى العمل بالإمكانات المحدودة المتوفرة فقط.

لكن الوضع تغير مؤخرا، بحسب تركيش، إذ "تم توفير تخصيصات مالية جديدة، إلى جانب تعزيز الكوادر البشرية، ما انعكس بشكل مباشر على مستوى النظافة والخدمات في المدينة".

نفايات عابرة لحدود المدن

فيما قال د. محمد خضر الجبوري، الاستشاري والخبير في البيئة والمناخ من محافظة كركوك، إن "مشكلة النفايات في العراق أصبحت من أكثر القضايا البيئية والصحية إلحاحا، بعد أن تجاوزت آثارها حدود المدن إلى الريف، وفاقمت من التلوث البصري والهوائي والمائي، وسط عجز واضح في البنى التحتية عن التعامل مع الكميات المتزايدة من النفايات، وتوسع الأنشطة السكانية والصناعية والزراعية بشكل غير منظم".

وأضاف الجبوري لـ "طريق الشعب"، أن "الحلول الحكومية ما تزال محدودة ولا ترقى إلى مستوى الأزمة، في وقت يتراجع فيه الوعي المجتمعي وتغيب مشاركة القطاع الخاص في تقديم البدائل المستدامة".

وتابع أن "الجهاز المركزي للإحصاء يقدّر حجم النفايات الصلبة في العراق بأكثر من 11 مليون طن سنويا، فيما تنتج العاصمة بغداد وحدها نحو 9 آلاف طن يوميا، يُجمع 85 في المائة منها بطرق بدائية، وغالبًا ما تُطمر في مكبات مفتوحة تفتقر لأبسط معايير السلامة البيئية".

وأوضح الجبوري، أن "دمج النفايات المعدنية والإلكترونية مع النفايات العامة يزيد من خطورتها، في ظل غياب محطات فرز وتدوير حديثة في أكثر من 70 في المائة من المحافظات"، مشيرا إلى أن "ضعف البنية التحتية للخدمات البلدية، وغياب استراتيجية وطنية موحدة لإدارة النفايات، والتمدد العشوائي للعمران، وسلوكيات المواطنين غير الواعية، جميعها تسببت في تعقيد المشكلة".

وتابع، ان "الأضرار لم تعد مقتصرة على البيئة فحسب، بل أصبحت تمس صحة الإنسان والاقتصاد الوطني، حيث يؤدي تحلل المواد العضوية إلى انبعاث غازات الدفيئة الخطيرة، وتسرب العصارة السامة إلى المياه الجوفية، فضلًا عن انتشار الحشرات والقوارض التي تنقل أمراضًا مثل التيفوئيد والليشمانيا".

ودعا الجبوري إلى "إطلاق حملة وطنية للتوعية البيئية تشمل وسائل الإعلام والمدارس والجامعات، وتطبيق نظام فرز النفايات من المصدر، مع دعم المشاريع الصغيرة في مجال التدوير من خلال منح وقروض حكومية، وتفعيل الغرامات بحق المخالفين، إضافة إلى إشراك القطاع الخاص في بناء محطات فرز ومعالجة حديثة ضمن نظام الاستثمار، وإصدار قانون شامل لإدارة النفايات يوضح آليات التنفيذ والعقوبات".

واختتم حديثه بالقول إن "أزمة النفايات في العراق ليست بيئية فقط، بل هي إدارية وثقافية في آنٍ واحد، وكل يوم تأخير في المعالجة هو يوم إضافي نحو كارثة بيئية وصحية وشيكة، لا بد من تداركها قبل فوات الأوان".

عرض مقالات: