اخر الاخبار

رغم مرور أكثر من عقدين على التغيير السياسي في العراق، ما زال الحديث يتواصل حول مشاكل القطاع الصحي، الذي يرزح تحت أعباء التمويل الهزيل والادارة المرتبكة، حتى تحول الى أحد أضعف حلقات الدولة وأكثرها عجزاً عن تلبية احتياجات المواطنين.

فالمستشفيات ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ متهالكة، وهناك نقص في الأدوية، خصوصاً المتعلقة بالأمراض المزمنة، إضافة لتردي الخدمات. كل هذا بحسب ما اكده مختصون، يشكل نتيجة مباشرة لميزانيات شحيحة تستهلكها النفقات التشغيلية، فيما تغيب خطط الاستثمار والتطوير.

هذا الخلل البنيوي جعل المواطن العراقي يواجه يومياً واقعاً صحياً مريراً؛ طوابير انتظار طويلة، خدمات متواضعة، وغياب التجهيزات الحديثة، في وقت تتزايد فيه معدلات الأمراض المزمنة والاضطرابات البيئية، في وقت قطعت فيه دول جوار العراق شوطاً طويلاً في هذا القطاع.

عجز غير مسبوق

في هذا الصدد، حذّر رئيس لجنة الصحة والبيئة النيابية، ماجد شنكالي، من وصول المؤسسات الصحية في بغداد والمحافظات الى مرحلة عجز مالي غير مسبوق، مشيراً الى أن ذلك ينعكس بشكل مباشر على مستوى الخدمات الطبية المقدمة للمواطنين.

وقال شنكالي إنّ “الوضع الصحي يمر بأزمة خطرة بعد توقف الإعانات الغذائية وخدمات التنظيف وتجهيز وقود سيارات الإسعاف، ما جعل المؤسسات الصحية في ظروف صعبة للغاية”.

وأضاف ان “نسبة التمويل الفعلي لدوائر الصحة لم تتجاوز 22 في المائة من المبالغ المخصصة لها، في حين أن النسبة المطلوبة لضمان استمرارية العمل يجب أن لا تقل عن 66 فق المائة".

وتابع أن “أولوية أي برنامج حكومي يجب أن تكون تمويل وزارة الصحة ومؤسساتها، باعتبارها معنية بشكل مباشر بحياة المواطن وصحته”، مشدداً على أن “الواقع المالي الراهن يعكس تناقضاً واضحاً مع ما يُعلن من دعم القطاع الصحي”.

تحدٍ آخر

إضافة لشح التخصيصات، فإن الوزارة تواجه أحياناً معضلات كثيرة، مثل عدم صرف مستحقاتها، الأمر الذي ينعكس على مفاصل مهمة في هذا القطاع، كما حدث قبل شهرين مثلاً.

وكان النائب باسم الغرابي، عضو اللجنة ذاتها، كشف في وقت سابق، عن أزمة خانقة في الأدوية والمستلزمات الطبية داخل المستشفيات والمراكز الصحية، عازياً ذلك الى عدم صرف المستحقات المالية الكافية لوزارة الصحة.

وقال الغرابي، إنّ “الوزارة اضطرت الى الغاء العديد من عقود شراء الأدوية والمستلزمات الطبية بسبب شح السيولة المالية”، مبيناً أن “وزارة المالية لم تصرف سوى 25% من التخصيصات المرصودة لوزارة الصحة خلال هذا العام، وهو مبلغ لا يلبي أدنى الاحتياجات الفعلية”.

وأضاف أن “هذا النقص انعكس بشكل مباشر على توافر الأدوية الأساسية، ولا سيما أدوية مرضى السرطان، مما يهدد حياة آلاف المرضى ويضاعف من معاناتهم”.

واشار ايضاً الى أن الوزارة "بأمسّ الحاجة الى الأموال اللازمة لتجديد التعاقدات مع الشركات الدوائية وتغطية النقص الحاد”.

وطالبت الصحة النيابية، آنذاك رئيس الوزراء ووزيرة المالية بالتدخل العاجل وتوفير المبالغ الكافية لضمان استمرار توفير الأدوية والخدمات العلاجية الأساسية للمواطنين.

الصحة آخر اهتمامات الموازنة

في هذا الصدد، أكد المتخصص في الشأن الصحي، د. فاضل المندلاوي، أن الأزمة البنيوية في قطاع الصحة بالعراق تعود بالدرجة الأساس إلى ضعف حجم التخصيصات المالية الممنوحة له في الموازنات العامة المتعاقبة.

وقال المندلاوي في حديث مع "طريق الشعب"، أن “الحصة المخصصة للصحة لا تتجاوز 4 إلى 4.5 في المئة من الميزانية، وهي نسبة متدنية للغاية إذا ما قورنت بدول الجوار، فضلًا عن الدول المتقدمة، في حين تصل موازنات الدفاع والأمن الى نسبة اعلى بكثير”.

وأضاف المندلاوي، أن “هذا التفاوت الكبير جعل وزارة الصحة شبه مشلولة، إذ لا تتمكن من تلبية احتياجاتها الفعلية في تطوير الخدمات أو إنشاء مؤسسات جديدة، لاسيما أن أكثر من 80 في المائة من ميزانيتها تذهب إلى النفقات التشغيلية، فيما لا يتجاوز الجانب الاستثماري 20 في المئة”.

وبيّن، أن تدني التمويل يؤثر بشكل مباشر على نوعية الخدمات الطبية المقدمة للمواطنين، لافتاً الى أن “تحسين الخدمة الصحية يحتاج الى استثمارات كبيرة تشمل تدريب الكوادر، وتوفير الأجهزة الحديثة، وتغطية احتياجات الدواء”.

وشدد على أن “المعالجة الحقيقية تكمن في إعداد موازنة صحية مدروسة تستند الى تقديرات دقيقة من الخبراء والمتخصصين، وبما يضمن تلبية الاحتياجات الواقعية للمواطنين، بعيداً عن القرارات العشوائية والقيود التي تفرضها وزارة المالية”.

وأكد أن “غياب التخطيط العلمي في التمويل الصحي يمثل مشكلة مزمنة ممتدة منذ عام 2003 وحتى اليوم”.

المشكلة في التخصيصات فقط؟

من جهته، قال د. زهير العبودي، المختص بالشأن الصحي، إن التحدي الأكبر أمام النظام الصحي في العراق يرتبط بكيفية إدارتها وتوزيعها، وليس فقط بحجم الأموال المخصصة.

وأضاف العبودي لـ"طريق الشعب"، أن “غياب التخطيط الاستراتيجي وعدم وجود قاعدة بيانات دقيقة، لاحتياجات المستشفيات والمراكز الطبية، يؤديان الى هدر الموارد، بحيث تُصرف مبالغ كبيرة من دون أن يلمس المواطن تحسناً في مستوى الخدمة”.

وأشار الى أن “المؤسسات الصحية ما تزال تدار بعقلية ادارية تقليدية، تفتقر الى برامج تقييم للأداء أو متابعة لمؤشرات الجودة، الأمر الذي انعكس سلباً على كفاءة الخدمات الطبية، وزاد من اعتماد المواطنين على العلاج خارج البلاد او في القطاع الخاص بتكاليف مرهقة”.

وتابع أن “الاعتماد شبه الكامل على الموازنات التشغيلية من دون خطط استثمارية طويلة الأمد، أدى إلى تدهور البنية التحتية للمستشفيات وغياب التكنولوجيا الطبية الحديثة”.

وحذر من ان “استمرار هذا النهج سيفاقم أزمات النظام الصحي، خصوصاً في ظل التزايد السكاني والارتفاع المستمر في معدلات الاصابة بالأمراض المزمنة”.

ودعا في السياق الى “تبني رؤية اصلاحية شاملة، تبدأ من بناء نظام تمويل صحي عادل وشفاف، وتطوير الكوادر الطبية من خلال برامج تدريب حديثة، فضلًا عن تفعيل أنظمة الرقابة والمساءلة لضمان وصول الموارد الى أماكنها الصحيحة”.