يبحث المواطن عن أية وسيلة لإنجاز معاملاته وسط الروتين القاتل في دوائر الدولة. ولأن الأبواب الرسمية مغلقة غالباً، صار الحل الأقرب في مقرات النواب، الذين يفتتحون مكاتب في الأحياء السكنية، وتوفر ممرات بديلة نحو المؤسسات الحكومية. يكفي كتاب موجه من "النائب" إلى الجهة المعنية، يُعلن عنه بعدها على صفحته الشخصية وكأنه إنجاز تاريخي!
لكن هذه الظاهرة الآخذة بالتوسع مع اقتراب موعد الانتخابات، لا تقتصر على النواب الفاعلين، بل وتشمل المرشحين أيضاً. فالعديد منهم افتتحوا مكاتب للترويج لأنفسهم من خلال "خدمة المواطنين"، وكأن الحل والربط بأيديهم. بل وتحولت هذه المقرات إلى منافذ لإغداق الأموال بسخاء. فالممول مستعد، والمواطن المتعب بحاجة إلى من يختصر الطريق.
والسؤال: ما صلاحيات المرشح أصلاً؟ ببساطة: هو مقرب من أحد المتنفذين في السلطة، ولديه حاسوب وطابعة لتمرير الطلبات، "خدمةً للمواطن" .. وضمانا لصوته الانتخابي.
حتى الموظفون دخلوا على الخط، فأصبحوا يتلقون "كتب شكر" بالجملة تضاف إلى سجل خدمتهم، من نائب أو مرشح أو رئيس حزب. بل ووصل الأمر أحيانا حد منح قطع أرضٍ سكنية، في موسم انتخابي لا حدود له.
أما المواطن الذي لا يعرف نائباً ولا مرشحاً، فمصيره..
عادت التسريبات الصوتية تتصدّر المشهد الانتخابي مجدداً، لكنها هذه المرة لم تقتصر على تسجيلات مشبوهة، بل تعدّتها إلى تصريحات علنية عن مقاطع فيديو تمسّ محارم بعض الخصوم، وكأننا أمام سوق نخاسة سياسي، لا يعرف خطوطا حمراء. ف
مسؤول سابق أعلن – بلا حياء – وعلى الهواء مباشرة، أن تلك المقاطع بحوزته، لكنه لن يستخدمها "احتراماً لشرف الخصومة"، في مشهد يعكس حجم الانحدار القيمي. فيما لم تحرّك هيئة الإعلام والاتصالات ولا مفوضية الانتخابات ساكناً!
وفي مشهد آخر، عرض برنامج تلفزيوني تسريباً صوتياً لمدير مكتب نائبة برلمانية، وهو يساوم أعضاء مجموعة "واتساب" على تحويل ملفاتهم للرعاية الاجتماعية من الرفض إلى القبول، بل ويعدهم بمنح إعانات اخرى، مقابل اصواتهم الانتخابية. والمثير أن ممثلاً للمفوضية حضر الحلقة واعتبرذلك "جريمة انتخابية وابتزازاً"، لكن المفوضية نفسها لم تكلّف نفسها عناء متابعة الملف، تاركة الفضيحة للنسيان، كما عشرات الخروقات السابقة.
هذا الصمت المريب على ممارسات كهذه، لا يعني سوى: أن مؤسسات الدولة تعيش حالة عجز أو تواطؤ مقصود، وهو ما يضعها أمام اختبار أخلاقي وقانوني خطير.
فالخطر اليوم لم يعد يكمن في شراء الأصوات وحسب، بل وفي بيع الكرامات وتسليع الأعراض، وسط رقابة رسمية صمّاء وغياب لأيّة محاسبة.
يبدو كل شيء عندنا وكأنه يسير عكس الاتجاه. فمثلا: رغم ترحيب المواطنين، خاصةً الموظفين، بوعود توفير خدمات طبية بسعر أقصاه 10 بالمائة من كلفتها في المستشفيات الحكومية (الأجنحة الخاصة) أو الأهلية، للمشمولين بنظام الضمان الصحي، فأن الواقع أمامهم بعيد تمامًا عن الوعود الرسمية.
فالكثير من المشمولين المذكورين يشكون من سوء تعامل وقلة احترام وتأخير متعمد في بعض المستشفيات الأهلية، ومعها ممارسات تضيّق عليهم لثنيهم عن الاستفادة من هذا النظام.
وحسب أحد الموظفين تتعامل المستشفيات مع المريض "وكأنها تتصدق عليه". ويضيف أن بعضها تلجأ إلى فصل المراجعين المشمولين بالضمان عن الذين يدفعون نقدًا، في إشارة واضحة إلى تمييز سلبي، يتعارض مع أهداف الضمان الصحي.
هكذا يُقدَّم الضمان الصحي كمنجز إصلاحي يحاكي ما هو مطبق في دول متقدمة، بينما تكشف التجربة العملية عن عقلية تجارية تهيمن في معظم المستشفيات الأهلية، ترى في المريض مجرد "مصدر ربح" وليس "إنسانًا له الحق في الرعاية الصحية".
إن غياب الرقابة الحازمة، وترك المجال مفتوحًا أمام الممارسات الاستغلالية، لا ينسف مغزى الضمان الصحي فقط، بل ويفاقم فقدان ثقة المواطن بالمؤسسات الصحية الرسمية والخاصة على حد سواء.
شهدت محافظات بابل والنجف وكربلاء انخفاضًا شديدًا في منسوب المياه في نهر الفرات، الذي يُغذي محطات مياه الشرب، ما أدى إلى تعكّرها وتلوثها بالطحالب، وعدم صلاحيتها للاستهلاك البشري. السلطات المسؤولة، التي حاولت أن تطمّن المواطنين الى عدم وجود مخاطر صحية في هذه المياه، لم تستطع إخفاء الحقائق؛ حيث أشار بيانٌ لمديرية ماء بابل إلى ارتفاع نسبة نوعٍ من البكتيريا التي تنمو في المياه العكرة، فيما أكدت مديرية ماء النجف رصدها حالات تلوث بطحالب عشبية خيطية ومواد عضوية أخرى، طرأت على مياه نهر الفرات، وتسببت بانسدادات في فلاتر التصفية العاملة ضمن المشاريع والمجمّعات الضغطية.
وفي الوقت الذي تعيش فيه بلادُنا وضعًا مائيًا خطيرًا ومخيفًا، بعد انخفاض الخزين المائي إلى 8 مليارات م3 فقط ، أي ما يعادل 8 في المائة من الطاقة المتاحة، جرّاء فشل الحكومة في انتزاع حصتنا من مياه دجلة والفرات من دول المنبع، وتخلّف الإدارة المائية، يتجلى عطش العراقيين، خاصة في البصرة والمناطق المجاورة لنهر الفرات وفروعه، دون أن نلحظ تحركًا جديًا ومبرمجًا لتخفيف الآثار الخطيرة للمشكلة بشكل عام، والإسراع في تحسين أساليب معالجة المياه، وتوفير مياه صالحة للشرب على الأقل للمواطنين بشكل خاص.
طرقت فرق من جهات أمنية في الدفاع والداخلية والحشد الشعبي، أبواب بيوت بعض المرشحين للانتخابات البرلمانية المقبلة، واتصلت بآخرين، وطلبت منهم معلومات محددة غير مفهومة المغزى، وذات طابع شخصي، في اجراء غير مسبوق يشكل تدخلا غير مبرر في الشأن الانتخابي، المفترض ان تديره المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وحدها.
وكان جميع المرشحين قدموا في وقت سابق، وثائق وتعهدات تخص العملية الانتخابية الى الجهة المختصة، لتنظر في طلبات ترشحيهم ثم المصادقة عليها، كما في العمليات الانتخابية السابقة.
اليس في ذلك ما يثير الشكوك؟ فمثل هذه السلوكيات تذكرنا بأجواء حسبناها أصبحت من الماضي. ثم اين هو الحق الدستوري في الخصوصية الشخصية، وفي حرمة المساكن وكونها مصونةٌ لا يجوز دخولها أو تفتيشها أو التعرض لها الا بقرار قضائي ووفقاً للقانون؟ فهل يا ترى كان هذا الاجراء وفقاً للقانون؟!
ان على مفوضية الانتخابات ان تقدم إجابات مقنعة ووافية على هذه التساؤلات، وبعكسه يصح القول، ان الجهات سابقة الذكر تدخلت بشكل سافر في شأن لا يعنيها، وقد تكون لها في ذلك "مآرب أخرى"!