اخر الاخبار

يرى الغرب في الهند قوة اقتصادية متنامية. وفي الوقت نفسه تلعب الهند بالنسبة لأنصار عالم متعدد الأقطاب دورا متناميا، تصاحبه مبالغة في تحليله وعرضه. وفي الجانب الآخر تركز وسائل إعلام يسارية على ما تراه حقيقة تتعارض مع الرؤية الغربية.

 هذه المساهمة، تطرح الصورة غير المرئية لواقع البلاد في عام يلفظ أيامه الأخيرة.

منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، وتوالي حزم الحصار والتضيق على روسيا الاتحادية، اجتذبت الهند الكثير من الاهتمام من خلال زيادة مشترياتها من النفط الروسي ودورها المتنامي في مجموعة بريكس، التي تحاول التحول إلى لاعب مهم في صراعات الهيمنة الجارية في عالمنا الراهن.  وكلا الأمرين يُفسر على نطاق واسع على قدرة الهند المتنامية على مقاومة إملاءات الغرب. وتتعزز هذه الصورة بظهور بعض الاحتكارات القوية في الهند وإعلان الحكومة الهندية لمجموعة من الخطط الطموحة، فيما يتعلق ببرامج الفضاء أو صناعة الرقائق. في الدوائر البرجوازية، يُنظر إلى البلاد كقوة اقتصادية ناشئة، ويتأثر تقييم الدور الهندي في أوساط اليسار بالتباين في هذه الأوساط بشأن الموقف من الحرب الجارية في أوكرانيا، فيراها المصطفون مع بوتين، بغضا للغرب، قوة «مناهضة للإمبريالية»، حين تراها أوساط اليسار الأخرى، اعتمادا على تحليل الواقع الطبقي والاجتماعي السائد في البلاد، وتعبيراته السياسية منذ وصول اليمين الهندوسي العنصري إلى السلطة، من بلدان الأطراف التابعة للمراكز الرأسمالية. في حين يكشف التحليل الدقيق للاقتصاد الهندي عن صورة أكثر تعقيدا.

بعد الاستقلال في عام 1947، بنيت في الهند دولة رفاه، وفق معايير البلاد وامكاناتها الفعلية، من خلال بناء القطاع العام، وتطوير التصنيع، والابتعاد عن الغرب، وتأكيد السيادة الوطنية، ودور أساسي في كتلة بلدان عدم الانحياز حينها. وفي العقود التي تلت ذلك، ازدادت قوة البرجوازية وانفتحت شهيتها للاستيلاء على شركات القطاع العام. وفي الوقت نفسه، دخل رأس المال الأجنبي إلى أجزاء كبيرة من الاقتصاد الهندي. وتم توظيف أزمة ميزان المدفوعات وانهيار الاتحاد السوفييتي لتحرير الاقتصاد الهندي منذ عام 1991، وفق النموذج الليبرالية الجديدة. وكجزء من هذه السياسة، تم فتح الاقتصاد أمام النهب الإمبريالي، وتم تدمير القطاع العام وتمت تهيئة الظروف للخصخصة.

وما شهدته البلاد منذ ذلك الحين ــ بصرف النظر عن التطورات المضادة في القطاعات الفردية ــ هو تراجع التصنيع. ومن الأمثلة على ذلك السكك الحديدية الحكومية، ثاني أكبر «صاحب عمل» في البلاد: فقد أدت خصخصتها إلى تفكيك المحطات والطرق في المناطق النائية من البلاد باعتبارها غير مربحة. وفي الوقت نفسه، أصبح السفر بالقطار غير متاح على نحو متزايد لعامة السكان مع ارتفاع الأسعار بشكل كبير. وينتقل إنتاج عربات السكك الحديدية إلى الولايات المتحدة، مما يؤدي إلى انخفاض الإنتاج الصناعي. تعتبر السكك الحديدية العمود الفقري للاقتصاد الهندي، ويصاحب تدميرها عمليات تسريح جماعية للعمال وتعطلت الاتصالات الصناعية في البلاد.

وتمت خصخصة قطاع الكهرباء، فأصبح من الصعب، بشكل متزايد، على الشركات العمل بشكل مربح بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة الكهربائية، وبالتالي توالت عمليات تسريح جماعي للعمال ايضا. ويلاحظ السير بالاتجاه نفسه في جميع قطاعات الاقتصاد الهندي تقريبًا: الاتصالات والنقل والصحة والتعليم والمالية والبنوك والإسكان وما إلى ذلك. وقد انخفضت القوة الشرائية للجماهير الهندية بشكل كبير في العقود الثلاثة الماضية. ويتم تحويل الأرباح بشكل متزايد إلى البلدان الإمبريالية، مما عمق تراجع التصنيع.

وتعتبر أزمة القطاع الزراعي خطيرة جدا، وقد نجمت عن انخفاض الدعم الحكومي وفتح القطاع أمام السوق العالمية. منذ عام 1997، ولا تزال احداث احتجاجات الفلاحين والمذراعين المليونيرة طرية في الذاكرة. لقد انتحر أكثر من 300 ألف مزارع بسبب الفقر. وفي العقدين الأولين بعد تحرير السوق من القيود وسيادة سياسة الفوضى فيه، انخفض عدد المزارعين بمقدار 15 مليون مزارع.

يفسر هذا التطور صعود الفاشية الهندوسية في الهند. ويحظى صعود هذه القوى بدعم من الرأسماليين الهنود، الذين يعتبرون منافسين عدائيين في أزمة تتفاقم باستمرار. لقد قادوا الرأسمالية إلى طريق مسدود، دون إجابات، باستثناء إطلاق عنان للعنف، لمواجهة مقاومة الطبقة العاملة والأوساط الاجتماعية والسياسية المناهضة للإمبريالية.

ويصف الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) الهند اليوم بأنها «حليف ثانوي للإمبريالية». إن البلاد بعيدة كل البعد عن أن تصبح قوة اقتصادية عظمى، وهي تسير على طريق تراجع التصنيع، وتدمير القوى الإنتاجية، والعودة إلى السياسة الاستعمارية، واستخدامها كساحة خلفية لإثراء الإمبرياليتين.

عرض مقالات: