في مهرجان الأغنية السياسية في جمعية التشكيليين العراقيين في مطلع السبعينات من القرن الماضي، يتربع على عرش الاغنية السياسية والشبابية ويحلق في فضاءات جميلة تهز وجدان الحاضرين وتترك بصمتها الخاصة. ها هو حقاً يبرز نجماً لامعاً في هذا المهرجان.
ولعل خطوته التالية والتي تمنحه الكثير في أعقاب مشاركته في مهرجان الشباب العالمي الذي اقيم في برلين عام 1975، والتي تكللت بميدالية المهرجان واعجاب الوفود الشبابية المشاركة.
تعرفت عليه عام 1974 يوم التقينا في فرقة مسرح اليوم وكانت الفرقة تستعد لتقديم مسرحية “الينبوع” تأليف نور الدين فارس واخراج وجدي العاني وبعد الاستعانة بثلاثة ضيوف شرف من فرقة المسرح الفني الحديث، وفي المقدمة منهم الفنانة الكبيرة زينب والفنان البارع خليل شوقي والفنان القدير لطيف صالح، أسند المخرج دور المغني إلى الفنان جعفر حسن وذلك للاستفادة من صوته الكورالي في المسرحية، أما أنا فقد مثلت دور أحد المتظاهرين الثوريين والمسرحية تبارك خطوة التأميم وتستلهم الأسطورة في هذا المضمار.
جمعتنا ساعات التمرينات والبروفات، وفي أوقات الاستراحة كنا نتبادل الأحاديث المتنوعة، ما أكثر ما حدثني عن مسقط رأسه (خانقين) ونهر الوند وكيف كانت هناك سينما مخصصة للنساء في هذه المدينة، وعن أمه تلك المرأة الثورية المقدامة التي دخلت السجن ورفضت الظلم والاضطهاد، وعن طفولته وتعلمه العزف على الناي ببراعة، وعن والده الذي كان يعارض دخوله لمعهد الفنون الجميلة ويحلم أن يكون ضابطاً عسكرياً.
تعرض المسرحية لأيام معدودات من على قاعة المسرح القومي في كرادة مريم، وبعدها ننصرف كل إلى عمله في هذه المؤسسة أو تلك.
وإذ تتأزم الاوضاع السياسية في البلاد وتصل الجبهة الوطنية إلى طريق مسدود، تشن حملة اعتقالات واسعة في صفوف السياسيين والمثقفين، ويتم اعتقال جعفر حسن ويطلق سراحه، فيضطر للهرب سيراً على الاقدام إلى اليمن الديمقراطية، وهناك لا يألوا جهداً في النهوض بالحركة الفنية والغنائية في إطار “أشيد” “اتحاد الشبيبة اليمني الديمقراطي” وله يعود الفضل في اكتشاف الكثير من المواهب واطلاقها وتأهيل الفرق الغنائية لتحقيق مستويات أفضل. وكم من المرات وبعد سفري إلى اليمن الديمقراطية في آذار 1979 برفقة الفنانة المسرحية الرائدة زينب، كنا نزوره في منزله المطل على البحر، فنمضي سهرة ما أجملها بصوته الشجي العذب وهو يستحضر الوطن ويغني للفقراء المحرومين فيها، وبما يجعل من الاغنية سلاحاً ماضياً بوجه القمع والظلم والدكتاتورية والتسلط.
ومن اليمن الديمقراطية يسافر إلى ابو ظبي ليعمل مستشاراً فنياً فيها حتى زوال الدكتاتورية في العراق. عندها شد الرحال إلى ارض الوطن ليعمل مستشاراً فنياً في وزارة الثقافة في اقليم كردستان.
نلتقي في عين كاوه ذات ليلة وهموم الوسط الفني محور حديثنا وعما حققه نقابة الفنانين لهذه الشريحة المهمة خلال زياراته إلى بغداد واذكر منها عام 2017 يوم حضر ليشارك في احتفالية الذكرى السنوية لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي في صالة سينما سمير أميس، وكيف ألهب الأكف بالتصفيق وكانت لأغانيه السياسية نكهة مميزة ولكونها ذات ايقاعات راقصة تفاعل معها الحضور ايما تفاعل.
في هذه الزيارة أخبرني بأن الفنان جميل بشير اصيب بالسكتة القلبية بعد سرقة العود الذي اهداه له الشريف حيدر، وهو في الأصل هدية من الملك فيصل، كما طالبني بوصفي نقيباً للفنانين الاهتمام بجيل الرواد من الموسيقيين ممن لم ينصفهم الزمن. وحينما فكرت فضائية “الميادين” بتخصيص حلقة للفنان جعفر حسن والحديث عن تجربته الفنية ودوره في الاغنية السياسية مع مقدم البرنامج المعروف زاهي وهبه، اختارتني الفضائية لتقديم شهادة عنه أو ذكريات مشتركة جمعتنا. تم اللقاء معي امام تمثال شهريار في أبي نؤاس. ذات يوم وانا أطالع صفحته على الفيس بوك، علمت بأنه يوم كان مستشاراً في المجمع الثقافي في ابو ظبي للفترة من 1997- 2004، وعند اصدار مشروع الكتاب المسموع عبر سلسلة، قد ساهم في وضع وعزف الموسيقى للعديد من الكتب واختيار بعضها الآخر من الموسيقى العالمية، ومن بين الاصدارات عزف العود لتصاحب قراءة الاشعار، ديوان الجواهري الكبير وديوان الشاعر البردوني وأخيرا قبل اطلالة عام 2021 راح يكتب عبر الفيس بوك السطور التالية:
“انام باليوم أربع ساعات، لأني مشغول جداً جداً.. باليوم اشتغل 16 ساعة. عندي اعمال جديدة اريد أخلصها قبل السنة. قصيدة عمك الجواهري قريباً تخلص”. جعفر حسن ستظل حاضراً بيننا، وستظل اغانيك مغموسة بنضالات الفقراء والشرفاء وتتناقلها الناس في المنعطفات الثورية، وكلما هبت رياح التغيير والتحدي لتنشر الوئام والسلام والأمل والتفاؤل بغدٍ جديد.